الفوقية الزائفة والفوقية الحقيقية:
في موقف المؤمنين والكافرين في هذه الحياة ظاهرة بارزة ،وهي طغيان الكافرين واستسلامهم للحياة الدنيا بما زيّن لهم من شهواتها ورغباتها وطيباتها ،] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا[ بالمستوى الذي يشعرون معه أنهم يملكون الأمر كلّه فيها ،وبذلك تمتلىء قلوبهم بالكبر والشعور بالفوقية تجاه غيرهم من الذين يعيشون الحياة من خلال قيمها ومبادئها وارتباطها باللّه ...] وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ[ ويتحوّل هذا الشعور إلى سخرية من المؤمنين في ما يفعلون وما يقولون وما يواجهونه من تضحيات لحساب إيمانهم ،وفي ما يقدّمونه من جهد كبير في سبيل اللّه لا يريدون به جزاءً ولا شكوراً ،فيخيّل إليهم أنَّ ذلك كلّه مظهر سذاجة وغفلة ،لأنهم لا يفهمون معنى التضحية في سبيل اللّه ،لأنهم لا يعرفون معنى ثواب اللّه .
وربما يحدث من خلال ذلك حالة ضعف نفسية لدى المؤمنين لما يواجهونه من واقع الفوقية والدونية بين الكافرين وبينهم ؛فيوحي اللّه إليهم أنَّ قضية الدونية والفوقية ليست شيئاً مهماً في ما تمثّله قيم الحياة ،لأنَّ ذلك عرض زائل لا بقاء له ،فلا يوجب ارتفاع الإنسان فيه رفعةً حقيقية ،ولا اتضاعه ضعة حقيقية ،بل المهم كلّه هو الرفعة في الدار الآخرة التي يمنحها اللّه للمؤمنين ،لأنها من اللّه ،وما كان منه ،فهو الخير كلّه والمجد كلّه .وعلى هذا الأساس ،] وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[ فإنَّ اللّه عندما يجعل المؤمنين فوق الكافرين يوم القيامة ،فإنه يجعل لهم كلّ القيمة الكبرى التي يرتفعون بها إلى أعلى الدرجات ،فلا يضعف المؤمنون ،ولا يستسلمون للشعور أمام الاضطهاد ،بل ينبغي لهم أن يفكروا بما أعدّ اللّه لهم من ثواب وعقاب ،فإنَّ] وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[،لأنَّ الأمر بيده في ما يعطي أو يمنع ،وهو وليّ المؤمنين .
جاء في تفسير الميزان حمل كلمة] لِلَّذِينَ كَفَرُواْ[ على الأعم من الكافرين بالكفر الاصطلاحي ،وهو الكفر باللّه ،أو الكفر المطلق ،في مقابل الإيمان المطلق ،بحيث يُعدّ الانحراف عن كلّ حقيقة من الحقائق الدينية من تفاصيل العقيدة ،أو تغيير أية نعمة دينية ،كفراً ،وذلك من جهة ظهور كلمة «الكفر » بالستر الذي يعم المعنيين ؛ولذلك اعتبر من مصاديق هذه الآية المؤمنين باللّه الذين زيّنت لهم الحياة الدنيا فدعتهم إلى اتباع هوى النفس وشهواتها ،وأنستهم كلّ حقّ وحقيقة ،فلا يريد الإنسان إلاَّ نيلها ،من جاه ومقام ومال وزينة ،فلا يلبث دون أن يستخدم كلّ شيء لأجلها وفي سبيلها ،ومن ذلك الدِّين ،فيأخذ الدِّين ،وسيلةً يتوسل بها إلى التميّزات والتعيّنات ،فينقلب الدِّين إلى تميّز الزعماء والرؤساء وما يلائم سؤددهم ورئاستهم ،وتقرّب التبعة والمقلدة المرؤوسين ،وما يجلب به تماثل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم ،وكما شاهدناه في بني إسرائيل من قبل .
ونلاحظ على ذلك ،أنَّ الكلمة قد تكون ظاهرة في الستر بحسب المعنى اللغوي ،ولكنَّها ظاهرة في السياق القرآني ،كما هي في الاستعمالات العرفية ،بالكفر المصطلح ،ولا سيما في الآيات التي يذكر فيها] الَّذِينَ ءَامَنُواْ[ في مقابل] لِلَّذِينَ كَفَرُواْ[؛فإنها واضحة الدلالة على الكفر الذي يقابل الإيمان من ناحية المبدأ .وإذا كانت بعض آيات القرآن ظاهرة في ما يشمل الكفر ببعض الحقائق الدينية أو الانحراف العملي عنها ،فإنها جاءت ، واللّه العالمعلى سبيل المجاز ،لتنزيل الكفر بالحقيقة الدينية الخاصة أو الانحراف السلوكي عنها ،منزلة الكفر بالمبدأ ؛لأنَّ مَنْ آمن بشيء ،فلا بُدَّ من أن يؤمن بكلّ تفاصيله ويلتزم بكلّ التزاماته ...وهذا ما يحتاج إلى قرينةٍ تدل عليه بشكل خاص أو من خلال السياق العام ،وهي غير موجودة في هذه الآية ،إن لم يكن الظهور على خلافها .