{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا} هذا بيان معلل لما قبله من الوعيد لمن يبدل نعمة الله كفرا ، ولاسيما نعمة آيات الله تعالى في هداية الملة إلى وحدة الأمة ، فالكفر فيها هو كفر النعمة ، لا إنكار وجود الله تعالى ولا الشرك به كما زعم الجلال وغيره ، وسببه الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة وإيثارها على حياة الآخرة الباقية ، والمقام مقام الأمر بالاتفاق في الدين والأخذ بجميع أحكامها وشرائعه والنهي عن التفرق فيها ، والمسلمون هم المخاطبون بالوعيد على التفرق واتباع خطوات الشيطان على رأيه وتفسيره وهو المختار .فبعد أن أمرنا تعالى ونهانا وتوعد من يزل عن سبيله منا بعدما جاءنا من البينات ، ذكرنا بحال من سبقنا من أهل الكتاب الذين نزل بهم عذاب التفرق والخلاف في الدنيا ولم يمنعه عنهم أنهم أهل الكتاب وأنهم منتمون إلى نبي مرسل وعندهم شريعة إلهية ، ذلك أنهم لم يجتمعوا على الكتاب لاختلاف أئمتهم وأحبارهم في التأويل والتأليف ؛ وكان كل فريق منهم يعتذر عن تركه العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها .
بعد هذا كله يسأل سائل كيف يختلف الناس في دينهم ويتفرقون شيعا بعد مجيء البينات المانعة من ذلك ؟ فهذه الآية جواب لهذا السؤال ، وحل لما فيه من الإشكال ، ملخصه أن حب الدنيا والغرور بزينتها؛ يصرفان جميع قوى النفس إلى التفاني في طلبها ، وبذلك تنصرف عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيناته:أما الرؤساء فإنهم ينصرفون إلى حب الامتياز والشهرة والاستعلاء على الأقران ، ولا يكون ذلك إلا بالخلاف ، وانتصار كل رئيس لمذهب والذب عنه بالجدل والتأويل ، وأما المرؤوسون فإن كل فريق منهم ينتمي إلى رئيس يعتز به ويقلده دينه ، ولا يستمع قولا لمخالفه .ويربط كلا منهما بالآخر الاشتراك في المصالح الدنيوية ، فحب الدنيا هو علة العلل ورأس كل خطيئة .وقد تقدم شرح ارتباط الرؤساء بالمرؤوسين في تفسير:{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} ( البقرة:165 ) الآيات .
وما ذكرناه هنا قاض بأن يختص الذين كفروا بمن أوتوا كتابا وجاءتهم بينات تجمع كلماتهم وتحقق وحدتهم ، ففصموا بالخلاف عروتها ، ومزقوا بالتفرق نسيج وحدتها ، وذلك كفر بهذه النعمة ، وتبديل لها بالنقمة ، ويدلك على أن الكلام لا يزال في مسألة الخلاف والوفاق في الدين الآية التالية لهذه فإنها مبينة لأصل الخلاف في الدين ، منذ بعث الله النبيين .
جملة{ زين للذين كفروا} الخ في معنى قوله تعالى:{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} ( الكهف:7 ) ابتلاهم فغرت أقواما زينتها ، وفتنتهم بهجتها ، فانصرفت همتهم إلى الاستمتاع بلذاتها ، وانحصرت أفكارهم في استنباط الوسائل لشهواتها ، ومسابقة طلاب المال والجاه عند أربابها ، ومزاحمة الطارقين لأبوابها ، فلم يبق فيها سعة لطلب شيء آخر وإن لم يكن معرضا لهم فيما يرغبون ، وحائلا بينهم وبين ما يشتهون ، فما بالك بطلب الحق ، والتطلع إلى حياة بعد هذه الحياة ، والحق ينعى عليهم إسرافهم في أمرهم ، ويطالبهم بحقوق عليهم لغيرهم ، والتطلع إلى حياة أخرىيزعزع من سكونهم إلى لهوهم ويغض شيئا من تعاليهم في زهوهم ، بل يكدر عليهم بعض صفوهم ، ويقف بهم دون شأوهم ، ومن لم يطلب الحق من طريقه بإخلاص وإنصاف لا يجده ولا يتفق مع أهله ، وأنى للمفتونين بالزينة الإخلاص والإنصاف ؟
أقول:وثم أقوام آخرون نظروا إلى زينة الدنيا كما أمر الله ، وهو من وجهين أحدهما ما فيها من الآيات الدالة على قدراته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته بعباده .وثانيهما كونها نعمة منه تعالى ينتفع بها ، ويشكر الله تعالى عليها ، ويتبع شرعه فيها بالقصد واجتناب السرف والخيلاء وتذكر بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة وهو قريب .ولا تنس قوله تعالى:{ قل من حرم زينة الله} ( العراف:33 ) الخ .
والمراد بالذين كفروا هنا من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس إيمان إذعان وانقياد ، بل يؤثرون الحياة الدنيا على ما عند الله تعالى من النعيم المقيم ، لا المشركون أو الكافرون في عرف بعض الناس كالذين لا يسمونهم مسلمين ، كما أن القرآن لا يعني بالمؤمنين الناجين طائفة يسمون أنفسهم أو يصفونها بالإيمان أو الإسلام ، وإنما يعني بهم أولئك الموقنين بما عند الله ، الذي يؤثرون الحق على كل ما يعارضه من شهواتهم ولذاتهم ، وإذا عثر أحدهم فعمل السوء بجهالة يتوب من قريب .وانظر سائر ما عرف الله تعالى به المؤمنين والكافرين من النعوت والأوصاف يظهر لك هذا .
وأظهر أوصاف الكافر أن تكون زينة الدنيا أكبر همه يؤثرها على كل شيء ، حتى أن أمر الدين لا يزحزحه عن شيء يقدر عليه من هذه الزينة ومتاعها بلا معارض من الدنيا ، كحاكم يزع ، أو إهانة تتوقع ، لأنه لا يقين له في الآخرة .فإن كان منتسبا إلى دين فما دينه إلا تقاليد وعادات ، وخواطر تتنازعها الشبهات ، وتتجاذبها الشكوك والتأويلات ، ومنهم من يسلم تقليدا بأن هناك آخرة فيها نعيم خاص بأهل ملته ، وإن كانوا على ما وصف الله الكافرين ، وضد ما نعت المؤمنين ، كما كان اليهود في زمن التنزيل ، وقد أطلق القرآن عليهم اسم الإيمان في مواضع منها الآية السابقة قريبا على قول بعض المفسرين وفي غيرها أيضا كقوله في أهل الكتاب عامة من آخر سورة الحديد:{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتيكم كفلين من رحمته} ( الحديد:28 ) الخ .وأطلق عليهم اسم الكفر في مواضع كثيرة .وذلك أن للإيمانكما ذكرنا قبلإطلاقين فيطلق على المؤمن الموقن المذعن للعمل والاتباع .ويطلق على من يصدق تقليدا بأن للعالم إلها أرسل رسلا وينتسب إلى بعضهم وإن لم يكن على يقين في إيمانه ، وبصيرة في دينه وحسن اتباع لنبيه ، بل هو على اختلاف ذلك كما تقدم ، وهؤلاء قد يكونون في عرف القرآن كافرين وذكر من علامتهم الافتتان بزينة الحياة الدنيا فهم يعدون الكياسة الانغماس في نعيمها ويرون الفضل في الاستنكثار من فضولها .
{ ويسخرون من الذين آمنوا} إيمانا حقيقيا يحمل على العمليسخرون من فقرائهم لأنهم محرمون من زينتهم وإن كانوا راضين من الله مغبوطين بما منحهم من الإيمان والرجاء بالآخرة .ومن أغنيائهم لأنهم لا يتنوقون{[151]} في النعيم بل يرون الكياسة في الاستعداد لما بعد الموت بترقية النفس بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بالفضائل وأحاسن الأخلاق ويعدون الفضل في القيام بحقوق الناس وخدمة الأمة ، والإفاضة من فضل المال على العاجزين والبائسين .وكلما أنفقوا في سبيل الله درهما ، عده أولئك المستهزئون مغرما .
قال تعالى ردا على هؤلاء الساخرين الذين يرون أنهم في زينتهم ولذاتهم ، خير من أهل اليقين في نزاهتهم وتقاتهم{ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} فإذا استعلى بعضهم على بعض المؤمنين طائفة من الزمن في هذه الحياة القصيرة الفانية ، بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والمال والسلطان ، فإن المؤمنين المتقين يكونون أعلى منهم مقاما يوم القيامة في تلك الحياة العلية الأبدية .ولم يقل:والذين آمنوا فوقهم ، لأن هؤلاء المفتونين بزينة الحياة الدنيا يدعون الإيمان لأنهم ولدوا ونشؤوا بين القوم يدعون بأهل الإيمان وأهل الكتاب ، فالله يرشدنا إلى أنه لا اعتداد بالإيمان في الآخرة إلا إذا صحبته التقوى ، وكانت أثراً له في النفس والعمل الصالح{ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} ( مريم:63 ){ أعدت للمتقين} ( آل عمران:133 ){ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} ( المائدة:93 ) والآيات في هذا كثيرة جدا .
ولكن الذين يزعمون أن النجاة في الآخرة والدرجات العلى فيها تحصل بمجرد اللقب والجنسية ، أو بعض التقاليد التي لا أثر لها في النفس ، لا يلتفتون إلى مثلها ، وإذا قيل لعظمائهم فيها ، واحتج عليهم بها ، طفقوا يحرفون ويؤولون ، ويدعون أنها نزلت في الكافرين وهو مسلمون .أو يقولون هكذا قال شيوخنا إنما نحن مقلدون وهؤلاء الداعون إلى الكتاب ضالون مضلون ، لأنهم يدعون لاجتهاد في الدين .وقد أقفل علماؤنا بابه منذ مئين من السنين .
ذكر تعالى ما يمتاز به المؤمن المتقي على الكافر بتبديل النعمة وتفريق الكلمة ، وهو العلو في دار الكرامة ، ثم أخبرنا أن رزق الدنيا ونعيمها ليس خاصا فيها بتقي ولا شقي بل هو مبذول لكل أحد وأنه قد يأتي من حيث لا يظن ولا يحتسب فقال:{ والله يرزق من يشاء بغير حساب} الحساب التقدير أي من غير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور .وفيه وجه آخر وهو أنه كنية عن السعة وعدم التقتير والتضييق كقولهم:ينفق فلان بغير حساب .أي ينفق كثيرا .والمعنى أنه بذل العطاء في الدنيا لكل أحد بخلق الأرزاق وإقدار الناس على الكسب ، وقيل إن المعنى بغير حساب عليه من أحد فهو الذي خلق ورزق وهو قدر فهدى من غير محاسبة أحد ولا مراجعته .
وقد بسط معنى هذا الكلام في آيات أخرى قال تعالى في سورة الإسراء:{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ، وما كان عطاء ربك محظورا* انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} ( الإسراء:18- 21 ) فأنت ترى أنه لم يشترط السعي لرزق الدنيا لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز ، أو ارتفاع ما يملك من عقار وعروض بأسباب عامة .واشترط للآخرة السعي مع الإيمان كما خصنا هنا بالذين اتقوا من المؤمنين لأن الكلام فيهم .ثم ذكر أن عطاءه واسع مبذول لكل أحد ليس فيه حظر من الله تعالى فللمشمر تشميره ، وعلى المقصر تقصيره ، وفي الحساب هنا وجه آخر وهو الاحتساب والتقدير من جانب العبد فيكون بمعنى قوله تعالى في سورة الطلاق{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ( الطلاق:2 ) .
قال الأستاذ الإمام:إن الرزق بغير حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد فإنك ترى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء موسورين متمتعين بسعة الرزق ، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين ، والمتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا ومحلا لعناية الله تعالى به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر .فهو يجد بالتقوى مخرجا من كل ضيق .ويجد من عناية الله رزقا غير محتسب .وأما الأمم فأمرها على غير هذا فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة معدمة مهينة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه بالجري على سننه الحكيمة وشريعته العادلة .ولم يكن من سنة الله تعالى أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ، ولا تعمل ولا تدبر ، بل يعطيها بعملها ، ويسلبها بزللها .وقد بين الأستاذ هذا المعنى غير مرة وتقدم في التفسير وهو مؤيد بآيات الكتاب المبينة لسنن الله العامة كقوله تعالى:{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ( الأنفال:25 ) فجعل وقوع الظلم سببا في وقوع البلاء على الأمة من ظلم منها ومن لم يظلم .
ومن الظلم ترك مقاومة الظلم حتى يفشو ويكون له السلطان الذي يذهب بكل سلطان .كقوله:{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} ( الأنفال:46 ) ولأجل هذه السنة أمر بالاستعداد على قدر الطاقة{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ( الأنفال:60 ) ولا قوة مع الخلاف والنزاع .والتفرق والانقسام ولذلك أمرنا تعالى بالدخول في السلم كافة ، ومنحنا على ذلك البينات الكافية .وضرب لنا الأمثال .وتوعدنا بالوعيد بعد الوعيد .ثم بين لنا منشأ الاختلاف في البشر لنكون على بصيرة فقال .