قوله تعالى: ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ) الحياة بما فيها من متاع وزخرف ولذة مقدور لها أن تكون محببة للإنسان ،وأن تكون له باعثا للافتتان والاستحسان .والإنسان من جهته مفطور على حب الخير بكل ما في الخير من معنى أو صورة ،وهو ذو طبيعة غلابة جُبلت على الافتتان بزينة الحياة الدنيا ،سواء في ذلك المال أو النسل أو الشهر أو غير ذلك من ألوان الشهوات ،وهذه حقيقة التركيب المفطور لدى الإنسان ،وما من أحد إلا وقد حُببت إليه الزينة بكل صورها ومظاهرها: وفي ذلك يقول الله في آية أخرى: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) .
أما ذكره الذين كفروا في الآية هنا ؛فذلك لشدة إقبالهم على الحياة الدنيا وزخرفها وزيتها من غير أن يرعوا في ذلك حلال أو حراما ومن غير أن يعبأوا بشرع أو دين ،فهم يتهافتون على الشهوات بكل أسلوب أو وسيلة ،لا يودعهم عن ذلك تورع أو تقوى حتى ولا حساب من ضمير أو وجدان .
أما المؤمنون فهم يأخذون بحظهم من زينة الحياة الدنيا على نحو ما بينه الله لهم من شرائع وحدود دون مجاوزة أو اعتداء .ومثل هذا الأخذ مباح ومشروع مادام غير متجانف لإثم ولا مقارف لعدوان على حقوق الله أو الناس .
والكافرون وهم يقبلون على الشهوات في تهافت جامح ،فإنهم يسخرون من المؤمنين الفقراء الذين لا يملكون غير القليل من الزاد والمؤونة أو دون ذلك ،إنهم يسخرون منهم لإقلالهم وقلة ما لديهم من متاع .
ثم يبين الله في إخبار صارم أن هؤلاء الكفرة الذين ملكوا الزينة والثراء في هذه الدنيا ،سيأتون يوم القيامة أذلة خزايا وقد غشيتهم كل غواشي العار والمهانة والإحساس بالندم .ولسوف يكون المؤمنون فوقهم سواء في المكان إذ يرتقون إلى أعلى عليين في الجنة ،والكافرون دونهم في النار في أسفل سافلين ،أو في المرتبة العالية حيث الاحتفاء والتكريم للمؤمنين ،والزراية والحقار للكافرين .
قوله: ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) أي أن الله سبحانه وتعالى يفيض بالرزق على من يشاء من عباده من غير عد أو حصر .ويؤيد هذا المعنى ما قاله النبي ( ص ):"أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرض إقلالا ".
وقيل: إن الله يرزق عباده وليس له في الخلق محاسب يحاسبه على فعله وعلى تصرفه في تقسيم الرزق وإعطائه للناس .والأول أظهر .