{ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب 211 زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب 212}
تقدم أن في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} وجهين أحدهما أن المراد بالذين آمنوا أهل الكتاب وثانيهما أن المخاطب بها المؤمنين من المسلمين .وقوله عز وجل{ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} ظاهرة على كلا الوجهين فهو على الأول بيان لحقيقة حالهم ، وأن الآيات والنذر لا ترجعهم عن ضلالهم ، فإذا استمروا على الجحود والخصام ، وأعرضوا عن الدعوة إلى الدخول في السلام ، فليس ذلك بدعا منهم ، ولا دليلا على أن الإسلام غير بين لهم ، فكم جاءهم أنبياؤهم بالآيات البينات ، وكم بلاهم الله تعالى بالحسنات والسيئات ، ولم يغن ذلك عنهم ، ولا صدهم عن خلافهم وشقاقهم ، بل بدل الذين كفروا منهم قولا غير الذي قيل لهم ، وبدلوا نعمة الله كفرا .
{ ومن يبدل نعمة الله} عليه بالآيات الدالة على حق ، والوحدة الداعية إلى الشكر{ من بعد ما جاءته} بالبيان ، وأبهرت بالبرهان ، بجعلها مثارا للتفريق والاختلاف وجعل الأمة الواحدة شيعا وأحزابا ومذاهب وفرقا بسوء التأويل وعصبيات الرياسة والسياسة{ فإن الله شديد العقاب} لمن تنكب سنته ، وخالف شرعته ، وهؤلاء المبدلون منهم ، فالعقاب الشديد نازل لا محالة بهم ، ولم يقل فإن الله يعاقبهم ليشعرنا بأن هذا من سننه العامة فحذرنا أن نكون من المخالفين المبدلين ، توهما أن العقاب خاص ببعض الغابرين ، كما يلغو كثير من الجاهلين ، فأنت ترى أن هذه الجملة في معنى قوله{ فإن زللتم من بعد ما جائتكم البنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} ( البقرة:209 ) والتقييد بمجيء البينات والآيات دليل على أن من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبينة والدليل لا يخاطب بهذا الوعيد ، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام ، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم ، ويجعل مع من عاند الحق من بعد ظهوره له في قرن .
وفي هذه من الهداية بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء ، وهو أن الآيات والبينات إنما تفيد النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق المتوجهة إلى طلبه ، وأما النفوس الخبيثة التي يفضحها الحق ويظهر باطلها الذي تحب ستره ، والاسترسال فيما هي فيه من اللذة الحسية والجاه الباطل ، فإن الآيات والبينات لا تزيدها إلا مماراة وجدلا في القول وجحودا وعنادا بالفعل ، هذه سنة الله تعالى في البشر عامة ، لا في بني إسرائيل خاصةكذلك كان وكذلك يكون وسيكون وسوف يكون إلى ما شاء الله .
وأما تفسير الآية على الوجه الآخر المختار في المخاطبين في السلم فهو أنها هادية إلى الاعتبار بسنة الله تعالى في الأمم الماضية على ما بينا آنفا ، كأنه يقول يا أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلمعليكم بالدخول في السلم والاتفاق ، والاعتصام بالإسلام في جملته ، لا تفرقوه ولا تتفرقوا فيه وتكونوا شيعا ، كيلا يصيبكم ما أصاب أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائتهم البينات من قبلكم ، وهؤلاء بنو إسرائيل بين أيديكم ، وحالهم لا تخفى عليكم ، فسلوهم حالهم ، واستنطقوا آثارهم ، واقرؤوا تاريخهم ، تروا أنهم أوتوا نحوا مما أوتيتم من البينات ، وأمروا كما أمرتم بالاتحاد والاجتماع ، فتفرقوا إلى مذاهب وشيع ، وزلوا عن صراط الله فتفرقت بهم السبل فأخذهم الله بعزته ونفذ فيهم حكم سنته ، وزال سلطانهم ، ولفظتهم أوطانهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة ومزقوا في الأرض كل ممزق .
والآية على كل الوجهين عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين به لا حكاية تاريخية عن بني إسرائيل .ولكن هل يعتبر بها المنتسبون إلى القرآن ؟ وهل يفهمون منها أن ملكهم الذي يتقلص ظله عن رؤوسهم عاما بعد عام ، وعزهم الذي تتخطفه منهم حوادث الأيام ما بدلهما الله تعالى إلا بعد ما بدلوا نعمته عليهم في قوله:{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} ( البقرة:103 ){ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ( الأنفال:53 ) كلا إنهم لم يفهموا هذا ولو تغنوا وترنموا بهذه الآيات في كل مأثم وكل موسم وإن رؤسائهم لا يمقتون أحدا مقتهم لمن يذكرهم به وإن أكثر عامتهم تبع لهؤلاء الرؤساء كما كان بنو إسرائيل على عهد نزول القرآن وإنا لنعلم أن الساكتين منهم على جميع ما مني به المسلمون من البدع والخرافات والفسوق والعصيان يتفقون مع المدافعين عن الفاسقين والمبتدعين ، على إيذاء الواعظين الناصحين ، باسم المدافعة عن الدين والسبب في هذا وامثاله لم يفرط فيه الكتاب المبين ، بل هو ما هدانا الله تعالى إليه بقوله:{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا}