إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 277 )
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الجرم العظيم الذي يقع فيه آكل الربا ، والأثر الذي ينال نفوسهم وعقولهم من مغبة إثمهم ، والعذاب الأليم الذي يرتقبهم يوم القيامة ، ثم بين سبحانه بعد ذلك جزاء الصالحين الذين لا يأكلون الربا ، والذين يستبدلون بأكل أموال الناس بالباطل الزكاة يؤدونها ، والفرائض يقيمونها ، وحق الله والناس في أنفسهم وأموالهم يأتون به على الوجه الأكمل ، وبعد بيان تلك المرتبة العليا لأهل الإيمان ، ذكر الطريق لتوبة أكلة الربا ، والمسلك الذي يسلكونه ليرتفعوا إلى مرتبة الطاهرين ، وعاقبة السوء إن استمروا في غيهم يعمهون .
ابتدأ سبحانه ببيان الأطهار في مالهم وأنفسهم فقال سبحانه:
[ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة] ذكر سبحانه ذلك الصنف الفاضل الذي جعله الله تعالى من صفوة عباده ، فوصفه بأربع صفات ، هي:الإيمان . . والعمل الصالح . . وإقامة الصلاة . . وإيتاء الزكاة .
أما الوصف الأول فهو الإيمان ، فهو نور القلب به يشرق وبه يهتدي ، وإذا قوي الإيمان تطهرت النفس من كل أدران الهوى ومقاصد السوء . وذكر القرآن الإيمان في أول أوصاف الأبرار لثلاثة أمور:
أولها:إن الإيمان بالله ورسوله إذا استغرق النفس ، واستولى على القلب وجد الإخلاص للناس وطلب الحق ، فاتجه الإنسان بكل جوارحه إليه؛ والإخلاص هو النور الذي يهتدي به الإنسان ويحميه من كل حيرة .
و ثانيها:إن الإيمان الذي هو الوصف الثابت للمؤمنين هو والربا نقيضان لا يجتمعان ، فما من شخص يأكل الربا أو يبيحه إلا كان منشأ ذلك نقصا في إيمانه ، واضطرابا في يقينه ، إذ يكون إيمانه بالمال أكثر من إيمانه بالله .
و ثالثها:إن الإيمان يتضمن معنى الإذعان للحق ، ومن ادعى الإيمان ولم يذعن للحق ، فقد جافى حقيقته .
من أجل هذه المعاني صدرت أوصاف الذين لا يأكلون الربا بوصف الإيمان .
و الوصف الثاني من أوصاف الذين لا يأكلون الربا:هو العمل الصالح ، والعمل الصالح هو كل عمل فيه خير للمجتمع الذي يعيش فيه المؤمن ، يبتدئ فيه بالأسرة:الأقرب فالأقرب ، ثم بالجيران:الأدنى فالأدنى ، ثم بالعشيرة كلها ، ثم بقومه ، ثم بأمته .
و إن اقتران الإيمان دائما بالعمل الصالح يدل على أن الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي للخير ، فليس الإيمان في الإسلام مجرد نزاهة روحية ، وتعبد في الصوامع ، إنما الإيمان مظهره عمل إيجابي فيه نفع للناس ، فالإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي ، لا مجرد التقديس السلبي .
و إذا كان العمل الصالح هو النفع العام والنفع الخاص ، فإنه يفترق عن الصلاة والزكاة ، من حيث إن هذه هي الفرائض الوقتية المنظمة للعلاقات بين العبد وربه ، وبين العبد والناس ؛ أما العمل الصالح فهو الحال الدائمة للمؤمن التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ، ولا حال ، فكما أن الإيمان حال دائمة ، فالعمل الصالح أي النفع الدائم المستمر للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون حالا دائمة مستمرة للمؤمن .
و ذكر هذا الوصف في مقابل أكل الربا فيه إشارة إلى التقابل بين الشر والخير ، والإثم والبر ، فإن الإثم إيذاء للناس ومن ذلك الربا ، وأخلاق المؤمن العمل النافع الدائم للناس ، وهو الخير وهو البر .
و الوصف الثالث:إقامة الصلاة ، أي الإتيان بها مقومة غير معوجة بحيث يستذكر فيها المصلي ربه ، ولا يسهو فيها عن ذكره سبحانه ، وما ذكرت الصلاة في مقام المدح للمصلين إلا ذكرت بالإقامة ، لأن إقامتها هي التي تهذب النفس ، وتبعدها عن الفواحش والمنكرات ، كما قال تعالى:[ إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . . .45] ( العنكبوت ) .
و إن ذكر الصلاة بجوار العمل الصالح فيه إشارة إلى أن الإسلام يلتقي فيه وصفان جليلان:التهذيب الروحي ، والنزاهة النفسية التي تكون بالصلاة والمداومة على إقامتها ، والعمل النافع المستمر وجلب الخير للناس ، ففيه نزاهة الروح والنفع العام .
و الوصف الرابع من أوصاف المؤمنين إيتاء الزكاة ، والزكاة هي الفريضة الاجتماعية التي فرضها الله سبحانه وتعالى ، وبها يأخذ ولي الأمر من مال الغني ما يسد به حاجة الفقير ، فهي قدر معلوم قدره الشارع الحكيم ، بحيث يأخذه من مال الغني قسرا أو اختيارا ، وذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الجملة أولئك الذين يؤتون الزكاة طواعية واختيارا ، فهم يعطونها محتسبين النية معتقدين أن الزكاة مغنم لهم ومطهرة لأموالهم ، وليست مغرما لهم ، ولا منقصة لأموالهم . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المسلمين بخير ما حسبوا الزكاة مغنما ، ولم يحسبوها مغرما ، ولقد قال تعالى:[ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها . . . 103] ( التوبة ) .
و ذكرت الزكاة في هذا المقام ؛ لأنها مقابلة للربا كما بينا في الآية السابقة ، ولقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى:[ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون 39] ( الورم ) .
[ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون] هذا جزاء الذين يؤمنون ، ويعملون العمل الصالح في سبيل النفع ، ويطهرون نفوسهم بالصلاة ، ويطهرون أموالهم بالزكاة ، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهم أنواعا ثلاثة من الجزاء .
أولها:الأجر ، وهو عوض ما قاموا به من خير ، واعتبر إنعامه عليهم بأضعاف ما صنعوا أجرا وعوضا وهو المنعم المتفضل ، حثا على فعل الخير ، وتعليم الناس الشكر ، ومقابلة الخير بالخير .
و الثاني من أنواع الجزاء:الأمن وعدم الخوف ، فلا مزعج يزعج فاعل الخير ، إذ إنه بالعمل للنفع العام ، وتطهير النفس ، وإعطاء الفقير حقه المعلوم قد وقى نفسه ووقى مجتمعه من ذرائع الفتن ونوازع الشر ؛ هذا في الدنيا ؛ أما في الآخرة ، فالأمن من عذاب الله تعالى .
و الجزاء الثالث:أنهم لا يحزنون ، وذلك لأنهم باستقامة قلوبهم ، وامتلائها بالإيمان وتهذيب أرواحهم وأدائهم ما عليهم من واجب في حق أنفسهم ومجتمعهم ، قد حصنوا أنفسهم من أسباب الهم والغم ، فلا يأسون على ما يفوتهم ، ولا يجزعون لما يصيبهم ؛ لأن نفوسهم روحانية تعلو عن متنازع الأهواء التي تملأ النفس بأسباب الهم والغم .
و إن ذكر هذه الأحوال في مقام مقابل لحال الربويين الذين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، له مغزاه ومعناه ، إذ فيه بيان للنعيم في مقابل الجحيم ، وللراحة والاطمئنان ، في مقابل الجزع والاضطراب ، وكل امرئ بما كسب رهين .