توالت نعمة الله تعالى ، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء ، وكانوا هم الضعفاء ، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي ، فسرى ما عند الأقوياء ، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء ، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة ، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا ، فتابوا وتاب الله عليهم وعفى عنهم ، وعد الله تعالى ذلك عليهم نعمة فقال تعالى:{ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون} .
أي أن هذه الجريمة الكبرى وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر ، ولكن الله تعالى عفى عنها ، والتعبير هنا بثم الدالة على التراخي والبعد ، لبيان بعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى ، ولكنه سبحانه وتعالى تواب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت .
وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو ، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة ، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة ، وهم كانوا في حال جهالة ، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية ، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق ، فكان العفو أدنى إليهم ، لأنهم كانوا في فتنة .
وقوله من بعد ذلك الكفران ، والفتنة التي أضلتهم ، فالإشارة إلى البعيد ، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه ، فهم كفروا كفرانا مبينا ، ولكن التوبة تجب ما قبلها ، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين ، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب ، فقد كان يعمهم ، ولا يخص فريقا . وقوله تعالى:{ لعلكم تشكرون} ، لعل هنا للرجاء ، والرجاء هنا من العبيد لا من الله ، والمعنى:عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى ، فالرجاء لأمر يقع أو لا يقع إنما هو من شأن الناس ، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لا يقع ، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء والله سميع عليم .
أو يكون الرجاء من الله تعالى ، ويكون بمعنى الأمر ، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل ، وتشكر لي حسن صنيعي ، فهذا يكون حثا على فعل الجميل ، بذكر موجبه ، وعلى هذا المعنى تكون{ لعلكم} في مقام التعليل لوجوب الشكر ، وتكون بمعنى:لكي تشكروا ، إن كنتم لا تكفرون بالنعمة ، ولكن تشكرونها .