وكانوا قد ألفوا عبادة العجل من غير بينة ولا دليل بل قلدوا المصريين تقليدا في عباداتهم وتأثروا طريقهم ، وألفوا ما ألفوه هم ، وإن الهوى والوهم هما اللذان سيطرا على نفوسهم ، فضلوا بضلالهم ، ولذلك صنعوا عجلا من الحلي ؛ ولذلك قال تعالى:{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} هذا ما كان منهم كفرا بالنعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم ، وفيها الدلالة القاطعة مع النعم الظاهرة ومع ذلك قلدوا المصريين في عباداتهم .
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على أن يترك بني إسرائيل لتلقي التوراة وفيها الألواح العشر التي تتضمن التكليفات العشر التي كلف الله تعالى بني إسرائيل .
فتركهم فتحرك فيهم ما ألفوه من عبادة العجل ، كما كان يعبد المصريون العجل وقد جعل لهم السامري ذلك العجل من الذهب ، وكان عجلا جسدا لا حياة فيه ، ولكن كان له خوار أي صوت كصوت البقر ، إذا مرت الريح في التجاويف التي صنعت فيه ، وقد ذكر الله تعالى هذا العجل المصنوع ببعض قليل من البيان في سور أخرى ، وذكر عنهم الله تعالى في هذه السورة أنهم عبدوه ، وأن هارون أخا موسى وردءه في الرسالة نهاهم عن العبادة ، وقد خلفه موسى فيهم ، فقال تعالى حكاية في ذلك:{ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قومي إنما فتنتم بهم وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( 90 ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( 91 )} [ طه] وذكر تمام ذلك في سورة طه:{ وما أعجلك عن قومك يا موسى ( 83 ) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى ( 84 ) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ( 85 ) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ( 86 ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ( 87 ) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( 88 ) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( 89 ) ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( 90 ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( 91 ) قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( 92 )ألا تتبعن أفعصيت أمري ( 93 ) قال يا بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ( 94 ) قال فما خطبك يا سامري ( 95 ) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ( 96 ) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ( 97 )} [ طه] .
وقد نسبت العبادة إلى كلهم ، والذي عبد العجل بعضهم ، لأن الذين لم يعبدوا لم ينهوا غيرهم فكانوا مثلهم كما قال تعالى فيهم:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 78 ) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( 79 )} [ المائدة] .
ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في اليم نسفا ، وذلك كقولهم حرق الأرم{[84]} أي حكها حكا شديدا .
هذا خبر عبادتهم العجل ، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها . وقوله:واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان:إحداهما ( وعدنا موسى ) ، والقراءة الأخرى ( واعدنا موسى ) ، وإن المواعدة لا تكون إلا بين طرفين بل معناها وعدنا ، وقد تستعمل:صيغة الفاعل في غير معنى المفاعلة ، كقولهم داويت العليل وعالجت المريض ، وعاقبت المجرم .
وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد ، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله .