المفسرون جملة يقولون:{ الضمير في بعضها ، في قوله تعالى:{ اضربوه ببعضها} أي ببعض البقرة وإن ضربهم للمقتول ببعض البقرة يحييه الله تعالى فيخبر عمن قتله ، ويعرف القاتل ، وقصة البقرة سيقت لبيان إحياء الله تعالى الموتى في وسط قوم ينكرون البعث والنشور ؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك:{ كذلك يحيي الله الموتى} أي كذلك الإحياء الذي شاهدتموه عيانا ، إذا كان ميتا فأحياه الله تعالى ؛ أي مثل ذلك الإحياء الجزئي الذي شاهدتموه وعاينتموه يحيي سبحانه وتعالى الأجسام بعد موتها ، ويكون النشور ثم تقوم القيامة .
ويقول سبحانه وتعالى:{ لعلكم تعقلون 73 )} أي رجاء منكم لأن تعقلوا وتدركوا الأمور على وجهها ، وعلى هذا التفسير يكون المقصود أن الأمر بالذبح لكي يضرب ببعضها الميت فيحيى ، وإن هذا يقضي أن يقدم خبر الإحياء والضرب ببعضها على الأمر بالذبح .
وقد أجاب عن ذلك الزمخشرى بأن التأخير يفيد في الخبر أمرين عجيبين ، وأن كليهما يصلح أن يكون قصة قائمة بذاته ، فالأولى المراوغة في الطاعة ، والثانية إظهار الأمر الخارق للعادة ، في إحياء الميت بضربه ببعض بقرة ، ولقد قال في ذلك:
إن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الخطايا ، وتقريعا لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام ، وهاتان القصتان كل واحدة منهما خصت بنوع من التقريع ، وإن كانتا متصلتين متحدتين ، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك ، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الآية العظيمة ، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله تعالى:{ اضربوه ببعضها} حتى يتبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع – وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة .
هذا بيان أنها قصة ، ولكن الزمخشرى ذكر أنهما قصتان متحدتان في قصة واحدة ، وأن الضمير العائد إلى البقرة في قوله تعالى:{ اضربوه ببعضها} أي ببعض البقرة .
لكن المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار ، عدهما قصتين منفصلتين لا اتصال بينهما بأي نوع من الاتصال البياني ؛ ولذا لم يجعل الضمير في قوله تعالى:{ اضربوه ببعضها} عائدا إلى البقرة إنما جعله عائدا إلى جثة المقتول ، بمعنى فاضربوا القاتل الذي قام الاتهام على أنه القاتل ببعض جثة المقتول فإن ذلك يحمله على الاعتراف فقد قام الدليل الموجب للقصاص ، وبذلك القصاص يحيي الله تعالى من مات بالقصاص له .
ذلك كقوله تعالى:{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . . ( 32 )} [ المائدة] وإحياؤها بالقصاص ، فالقصاص إحياء للنفوس كما قال تعالى:{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ( 179 )} [ البقرة] .
وقد ثبت بالإحصاء في تحقيق جرائم القتل أن مجرد رؤية الجاني للمجني عليه وهو مقتول يحركه للاعتراف ، واعتمد المرحوم النجار في ذلك على إحصاءات كثيرة كتبها له رجال الشرطة ، وأن من الوسائل المتبعة لحمل المتهم على الاعتراف أن يمكنوه من رؤية القتيل ، فإن ذلك يجعله يقشعر ويحس بعظيم ما ارتكب ، وربما حمله ذلك على الاعتراف ، والاعتراف سلطان الأدلة .
وإنه يزكي كلام المرحوم الأستاذ النجار ما يأتي:
أولا:أن القصة الثانية:وهي قصة القتل ابتدأت بقوله تعالى:{ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} ؛ ولذلك لم يسع الزمخشري وهو الذواق للبيان القرآني إلا أن يذكر أنهما قصتان ، وإن كان قد حاول أن يصل بينهما بأن الضمير في قوله تعالى:{ اضربوه ببعضها} يعود على البقرة ، مع البعد بينهما بطائفة من القول ، وعدم ظهور ذلك العود على البقرة .
الثاني:أن الضمير في{ اضربوه ببعضها} إذا عاد إلى النفس المقصودة يعود إلى أقرب مذكور ، وعودة الضمير إلى أقرب مذكور هو القاعدة العامة إلا إذا أدى فيها الأمر إلى شذوذ غير معقول ، أو كان ذلك مستحيلا .
الثالث:أن عودة الضمير على النفس يؤدي علما نفسيا اجتماعيا هاديا مرشدا ، ويكون في ذلك فائدة جديدة لم تكن في قصة البقرة ؛ لأن قصة البقرة تدل على عناد بني إسرائيل وتأثرهم بأهواء المصريين في تقديس العجل .
الرابع:أن الآية اختتمت بقوله تعالى:{ لعلكم تعقلون ( 73 )} وهو يدل على أن الموضوع يحتاج إلى تدبر وفكر رشيد ، وإدراك لمرمى التكليف .
وما نراه أن الفرق بين رأي المفسرين ، ورأي المرحوم الأستاذ النجار أن اتجاه المفسرين إلى جعل مسألة البقرة مسألة معجزة ، وأمرا خارقا للعادة على أن الضرب ببعضها يحيي نفسا ميتة على أساس أن ذلك دليل حسي على إمكان البعث وقربه ، والمرحوم النجار يرى أن ذلك تكليف اجتماعي ينبه العقول إلى أمر مقرر ثابت في الدراسات النفسية والاجتماعية .
ونحن نميل إلى رأي الأستاذ النجار ؛ لأنه لو كانت الحياة من الضرب ببعضها لأدى ذلك إلى إشباع ما في نفوسهم من أوهام حول تقديس البقر كما كان يتوهم المصريون ، بينما الرأي الأخير لا يؤدي إلى شيء من ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .