{ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله} ، أي من يقوم بحضانته ورضاعه لكم فتغذيه بلبن الرضاعة ، ومن يحمل هو تربيته وخدمته ، وبهذه الرعاية الربانية عاد إلى أمه كي تقر عينها برؤيته ، ويذهب اضطراب نفسها على غيبته عنها ، ويذهب اضطرابها وخوفها عليه .
وإنه في سورة القصص تفصيل لما أجمل هنا من غير تكرار ، فقد ذكر سبحانه حال أمه بعد أن ألقته في البحر فقال تعالى:{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين 10 وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون 11 وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون 12 فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون 13 ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين 14} ( القصص ) .
وبذلك ترى أن ما أجمل هنا أو أشير إليه إشارة من غير بيان قد وضح هنالك في سورة القصص من غير تكرار ، بل جزء سيق في موضعه من غير تكرار لفظ أو معنى .
المظهر للمنة الأخرى ذكره سبحانه وتعالى بقوله عز من قال:{ وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا} أن الله تعالى قد نجاه من الغم الذي أصابه من قتله نفسا و{ الغم} الحزن الذي يغمر النفس ويصيبها بما يشبه الغُمّة ، وهنا نجد أن الله ذكر النفس ولم يذكر من أي قبيل هو ، وفي ذلك إشارة إلى سبب الغم ، وهو أنه قتل نفسا ، وحسب ذلك موجبا للغم الذي يصيب بكرب شديد من نفس كنفس موسى الطاهرة التي صنعت على عين الله ، ولقد قال موسى عندما قتلها:{. . .قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين 15 قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم 16 قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين 17} ( القصص ) .
هذا هو الغم الذي أصابه بعد قتل النفس ، وقد نجاه الله تعالى منه بأن غفر له سبحانه ، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليه ، وعاهد الله تعالى ألا يكون ظهيرا للمجرمين .
وبعض المفسرين أو جلهم يقول:إن الغم الذي أصابه هو الخوف من القصاص ، وربما يؤيد هذا قول الله تعالى عن موسى:{ فأصبح في المدينة خائفا يترقب . . .18} ( القصص ) . وقد نقول:إن الغم كان من الأمرين ، عن نفسه اللوامة التي أوجدت كمدا وغما ، ومن الخوف من فرعون ، أو من الناس وقد قتل منهم واحدا .
المظهر الخامس من منة الله على موسى الكليم عليه السلام عبّر الله تعالى عنه بقوله تعالى:{ وفتناك فتونا} ، أي اختبرناك اختبارا شديدا ، و"فتون"مصدر ك "شُكور"، ويكون مصدر التوكيد الفتنة التي فتن الله تعالى موسى ، ويصح أن تكون جمع فتن ، أما أن الله تعالى أصابه بأنواع من الفتن ، ففتنة الاحتياج ، وفتنة الغربة ، وفتنة العمل ، وهو الذي كان مرفّها مترفا في بيت فرعون .
ولكن كيف يكون فتنة الله تعالى له فتنونا أو بأصناف الفتن مظهر المنة ، أو منة ؟ ونقول في جوابنا عن ذلك:إن موسى عليه السلام تربى في بيت فرعون ، فاكها في نعيمه ، وإن ذلك لا يكون منه نبي ، بل لابد أن يعرك الحياة وتعركه ، ويعيش بين من يستمع إلى أنينهم ، ولا بد أن يبتلى ليصل إلى مقام النبوة أو الإرهاص لها ، وذلك عُدّ مظهرا من مظاهر المنة وأي منة أعظم من أن يهيئه الله تعالى للنبوة ، ويخرج من دار فرعون ليجئ إليه نبيا رسولا ينذره بالنذر ، ويقدم له الآيات تَتْرى آية بعد آية .
ثم قال تعالى مبينا نتائج هذا الاختبار أنه سبحانه نقله من بيت فرعون إلى بيت رجل صالح ، ومن أنه كان يأكل من ترف فرعون في عيشة رخوة غير راضية ، فانتقل إلى حياة عاملة كادحة بأجل من جهد مستمر مع شعيب ، وقال تعالى:{ فلبثت سنين في أهل مدين} وهي من أرض سيناء على بعد ثماني مراحل من مصر .
الفاء في قوله تعالى:{ فلبثت} عاطفة وهي للترتيب والتعقيب مع الإشارة إلى السببية في الفاءات الثلاث ، فكان قتل النفس سببا للغم ، فنجاه الله تعالى منه ثم اختبره الله تعالى ليعده للنبوة ، ثم استقر به المقام في آل مدين عاملا كادحا ، وصار ذا زوج طاهرة وبيت وأولاد يحمل أعباءهم . وبذلك قامت أصهار نبوته ، وكلام الله تعالى له:{ ثم جئت على قدر يا موسى} العطف ب "ثم"للدلالة على انتقاله من مكان إلى أعلى مكانة ، وهي مكانة النبوة في أعلى درجاتها ، إذ كلمه الله تكليما ، والقدر هو ما قدره الله تعالى لأن يكون رسولا نبيا كليما .