{ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له} هذا بيان لما أوحى الله تعالى به إلى أم موسى ، ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى قال{ أمك} أي أمك الرءوم الشفيقة الرءوفة التي هي أشفق إنسان عليك ، ولقوة الإلهام تركتك لا بغضا لك ، ولكن محبة ، وتركتك لا لتهلك ، ولكن لتحيا . وإن في قوله:{ أن اقذفيه في التابوت} أي كان مما أوحي به الأمر بقذفه ، والقذف هو الإلقاء ، كما قال تعالى:{. . . .وقذف في قلوبهم الرعب . . .26} ( الأحزاب ) ولا شك أن التعبير بالقذف يفيد معنى الشدة في الإلقاء وذلك للمعاناة النفسية التي كانت تعتلج في قلب الأم الرءوم فكان التردد الشديد ، ثم انتهى التردد بالإلقاء ، وكأنها تقذف قطعة منها في تابوت مغلق لا تدري بالحس ما الله فاعل به .
ألقته في التابوت بمعاناة نفسية ، ثم ألقت التابوت الذي فيه موسى – قطعة نفسها – في اليم وهي في ألم مرير ، والضمير في قوله تعالى:{ اقذفيه في التابوت} يعود على موسى بلا ريب وأما في قوله:{ فاقذفيه في اليم} يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون للتابوت ، وفي كلتا الحالتين هي تقذفه وقلبها معلق به ، والأوضح أن يكون لموسى ، لقوله تعالى:{ فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له} فالعداوة ليست للتابوت ، وإنما هي لشخص الرسول الكليم .
ويلاحظ أن العطف كله بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب من غير تراخ زمني ، ذلك لأن الأم الرءوم تريد المسارعة بنجاة ولدها الحبيب من الذبح ، والإلقاء هو السبيل الوحيد أمامها ، والله سبحانه وتعالى الذي ألهمها بإلهامه الذي هو وحي ، ينقذه قبل أن يموت جوعا أو تتقاذفه الرياح ، يعجل سبحانه وتعالى بالنجاة فألقاه في الساحل وقوله تعالى:{ يأخذه عدو لي وعدو له}{ يأخذه} مجزوم في جواب الأمر ، وعداوة فرعون لله تعالى واضحة وقت الإلقاء على الساحل ، أما عداوة موسى لفرعون فستكون من القابل .
وقد عبر عن وجوده على الساحل بالإلقاء دون القذف ، لأن القذف يكون من أعلى لأسفل ولأن الإلقاء لم يكن بمعاناة من الأم ، بل كان برحمة من الله تعالى .
نجا موسى صغيرا من الذبح الذي كان يترقب كل مولود ذكر من بني إسرائيل ، ثم كانت الثانية وهي حفظه وكفالة أمه له ، وأن يكون بين أحضانها وهذا هو المظهر الثاني لمنة الله تعالى فقد ألقى عليه تعالى محبة ، فقال تعالى كلماته:{ وألقيت عليك محبة مني} ألقى الله تعالى عليه محبة منه سبحانه ، والمحبة التي ألقاها تعالى ذات عناصر ، أولها:أن الله تعالى أحبه ، ومن أحبه الله تعالى كان كريما على الناس ، وثانيها:أن الناس بتوفيق الله وتوجيهه أحبوه ، فكان محببا منهم إذ زرع في قلوبهم محبته ، وثالثها:أن الله تعالى فتح له القلوب المغلقة ، ففتح له قلب فرعون المغلق ، وفتح له قلب امرأته ، فقالت:{. . .قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . . .9} ( القصص ) ، وكما قال تعالى:{ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنا . . .8} ( القصص ) ، أي في المآل لا وقت الالتقاط ، إذ إنهم في وقت الالتقاط التقطوه ليكون قرة عين لفرعون وامرأته:{ ولتصنع على عيني}{ لتصنع} أي تتربى تحت رقابتي وملاحظتي فلا تقهر ، ولا تذل بل تكون عزيزا كريما ، ولتضمن التربية أن تكون تحت رقابة الله تعالى تعدت ب "على"، لأن معنى هذه التعدية أن الله وقد مكن فرعون من تربيته والقيام على شؤونه أشار سبحانه إلى أنه على رقابة له .
وإن في الكلام استعارة تمثيلية ، إذ شبه سبحانه وتعالى حال الرقابة على تربيته وصيانته بحال من يصنع شيئا على مرآه ونظره ، وبعض المفسرين قال:إن "على"هنا بمعنى "الباء"، والله أعلم .
وقوله تعالى:{ لتصنع على عيني} ، "الواو"عاطفة على فعل محذوف تقديره لتنعم بمحبة الله والناس ، ولتصنع على عين الله تعالى ، وتحت رقابته ومحبته ورعايته سبحانه وتعالى . والمظهر الثالث لمنته الأخرى هو عودته إلى أمه ليتربى في حضانتها رحمة به وبها ، لأن أمه ما طابت نفسها بفراقه إلا لنجاته ، ولأنها تريده لنفسها ، كما تريد كل أم رءوم مُحبة ، فرتب الله تعالى لها أن يعود إليها محفوظا مصونا فحرم الله تعالى عليه المراضع ، وقد احتار من في بيت فرعون في أمره ، وقد صار ملء قلوبهم جميعهم ، ولكن الله تعالى أرسل إليهم .