بعد أن ذكر سبحانه أنه الذي أخرج كل شيء من الزرع في بلد الزرع ، وأنه هو الذي أنزل الماء من السماء في بلد النيل ، بعد ذلك ذكر نعمته المباشرة في هذا فقال عز من قائل:{ كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى 54} .
وهذا التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطبين ، لبيان النعم التي أنعم بها عليهم ، إذ إن هذا النبات فيه طعام لكم ولأنعامكم و"الأنعام"جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ، لأنها نعم أنعم بها عليكم في ركوبها ، وفي أكلها ، وفي أخذ أنواع المنافع منها ، من أصوافها ، وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين .
وقوله:{ كلوا وارعوا أنعامكم} الأمر فيها للإباحة لا للوجوب ، والأمر بالأكل للإنسان واضح ولا يكون إلا بعد الإعداد من طحين ونخل وعجن وخبز ، وبعضها يؤكل مباشرة كبعض الخضر ، وقال بالنسبة للأنعام:{ وارعوا أنعامكم} ولم يقل:"لتأكل أنعامكم"، والجواب عن ذلك أن الماشية ، لا تخاطب ، والنعمة ليست لها ، إن النعمة لمالكها ، ولذا جعل خطاب الإباحة موجها إليهم بقوله جلت عزته:{ وارعوا أنعامكم} ، لأن الرعي ذاته نعمة أنعم بها عليهم ، إذ ربما تكون لهم أنعام ولا يجدون مرعاها ، فلا يمكنهم أن ينتفعوا بها ، ومعنى:{ وارعوا أنعامكم} مكنوها من الكلأ ، والعشب الذي خلقه تعالى ، ومعنى رعيها أن يقوم على شؤونها ، ويتبع بها مواطن الماء والكلأ ، وينتقل من مكان إلى مكان لسقيها وأكلها ، فالمقصود الظاهر هو أكلها ، وهو تعبير عن السبب وإرادة المسبب ، أو الفعل وإرادة المآل ، وذلك مجاز مرسل جائز في أساليب البيان .
{ إن في ذلك لآيات لأولى النهي} الإشارة إلى المذكور من آيات الله من خلق الأرض وجعلها ممهدة ، وخط السبل فيها ، وإنزال الماء من السماء إلى الأرض ، وإخراج النبات أزواج في صنوف شتى مفرقة متعددة المنافع متنوعة الأجناس ، إن في ذلك كله لآيات بينات تدل على قدرة الواحد الأحد ، ولكن لا يدركها إلا أولى النهي ، أي أولو العقول ، وسمي العقل "نُهية"، لأنه ينهى عن قبائح الأفعال ، كما سمي العقل عقلا ، لأنه يعقل النفوس عن الزلل والوقوع في الأخطاء والخطايا إن استعمل فيما خلقه الله تعالى له ، ولم يشطط ، ولم يفسد ، وفي كل هذا كما أشرنا وحدانية الله ، لأنه وحده الخالق الوهاب .