أوقع فرعون في نفوس جنده أنه مدركهم ، وأنهم قاتلوهم ، إذ هم عُزّل من السلاح وهم شرذمة قليلون كما قال ، وما علم هو وهم أن معهم الله تعالى على كل شيء ، وكان بهذا إضلالهم حسيا ، ظهرت عاقبته فيه وفيهم بإغراقهم ، وإن هذه صورة جلية حسية من إضلالهم العقلي والديني ، فقد أضلهم فجعل نفسه إلها فيهم وأضلهم فأرغمهم في نفسه ، وصاروا ليس له معهم وجود إنساني ، ثم قال تعالى:{ وما هدى} وهو الذي كان يقول لهم:{. . .ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد 29} ( غافر ) ، فكان اندغامهم في فكره إبعادا للهداية وإمعانا في الغواية .
موسى وبنوا إسرائيل
عاش موسى المجاهد في الحق أربعة أدوار:أولها أنه عاش في بيت فرعون تكلؤه المحبة من زوج فرعون ، وربما فرعون نفسه الذي لم يكن له ولد ، فكان في بيته بمثابة ولده ، حتى إذا بلغ أشده وأدرك المجتمع الذي يعيش فيه كان الدور الثاني ، فأدرك من هو في مصر ومن قومه ، فما ارتضى الظلم في ذاته ، ولا ظلم قومه ، فكان ربيب نعمة فرعون من شيعة المظلومين المضطهدين ، وعندئذ خرج من مصر حرا كريما رضي بشظف العيش ، وجفوة الصحراء وخلص لله ، وقال مناجيا ربه:{. . .إني لما أنزلت إلي من خير فقير 24} ( القصص ) ، وعاش كادحا وتزوج من إحدى ابنتي شعيب ، واستمر يرعى الأغنام متمتعا بحرية الصحراء ونسيمها غير الوبئ ، وإذا كان قد حرم رافغ{[1486]} العيش في بيت فرعون ، فقد منح حرية النفس وسلامة الاعتقاد ، ونعمة الكفاح ، وذوق متاعب الحياة بجوار نعيمها ، فاكتملت بذلك إنسانيته ، وعندئذ جاء الدور الرابع من حياته .
وهذا الدور الرابع كان في حقيقته دورين:أولهما:لقاؤه هو وأخوه بفرعون ، وقد انتهى بغرق فرعون ، ونجاة بني إسرائيل ، ويبتدئ الدور الثاني ، وهو دوره مع بني إسرائيل ومحاولة تربيته لهم ، لقد ربوا على الاستخذاء ، والضعف والاستكانة ، فلا بد أن يربى فيهم العزة والكرامة ، وربوا في أحضان الوثنية فلا بد أن تزرع فيهم الوحدانية ، وربوا على الختل والاستهانة ، فلا بد أن يربى فيهم العناية والخلق الكريم ، وهذا أشق الأدوار في حياة موسى .