بعد أن نجا هو وبنو إسرائيل من فرعون ، وألقاه الله تعالى في اليم ، قال الله تعالى مخاطبا لهم:{ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى80} .
ناداهم الله تعالى مقربا مدنيا مؤنسا لهم ذكرا سبحانه نعمته عليهم ، ليعرفوا حقها عليهم من الشكر فلا يكفروها ،{ قد أنجيناكم من عدوكم} الذي تحكم فيكم وأسامكم سوء العذاب ، وإن هذه كانت مظاهر العداوة من ذلك الظالم الغاشم{ واعدناكم جانب الطور الأيمن} أي الإتيان في جانب الطور الأيمن ، فالكلام على حذف مضاف ، وحذف لأن المقصود هو ذات الجزء الجانب الأيمن ، والإشادة به لأنه الجانب الذي لقي فيه ربه ، وأنزلت عليه الألواح العشرة فيه ، فهو المكان الذي كانت ذكريات نبوة موسى عليه السلام ، وهو من أولى العزم من الرسل ، والتوراة من الكتب المقدسة التي تشتمل على الشرائع الخالدة إلا ما نسخه القرآن الكريم .
وقد قال تعالى:{ واعدناكم جانب الطور الأيمن} وهنا ملاحظتان:إحداهما أن الله تعالى جعلهم طرفا في المواعدة وهي مفاعلة تكون من جانبين ، جعلهم الله سبحانه وتعالى طرفا مقابلا لذاته ، وذلك تكريم لهم ، ورفع لنفوسهم التي استخدمت بإذلال فرعون ، فأعلاهم رب العالمين ورفع كبوتهم وأزل عنهم خسيسة الذل .
والثانية أن المواعدة كانت مع موسى رسولهم ، لا معهم كلهم ، ولكن موسى يجيء بهذه الشرائع إليهم ، وقد قال تعالى في هذه المواعدة{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة . . .142} ( الأعراف ) ، ولأن موسى وهو رسولهم الذي أرسل إليهم كانت المواعدة معه مواعدة لهم . ولأن موسى اختار منهم من سيلونهم في هذا اللقاء ، فقد قال تعالى:{ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا . . .155} ( الأعراف ) ، فكان اختيار لهذا الموعد فيه معنى أنهم كانوا مواعدين ، وخصوصا أنهم كانوا يمثلون بني إسرائيل ، ولذا قال تعالى:{ واختار موسى قومه سبعين رجلا . . .155} ( الأعراف ) ، أي أنهم كأنهم قوم موسى جميعهم ، كان ذلك كله تشريفا وتكريما ، ورفعا لهم مما كانوا فيه من كبوة .
وقد ذكر سبحانه وتعالى طعامهم في هذه الصحراء الجرداء ، فبدلهم الله بطعام مصر طعاما أشهى وأمرأ وأجدى وهو المن الذي أنزله الله في الأشجار ، والسلوى ذلك اللحم الطري ، ولذا قال تعالى:{ ونزلنا عليكم المن والسلوى} وقال:{ ونزلنا} ولم يقل "أنزلنا"، لأن المن والسلوى لم ينزل عليهم دفعة واحدة ، فيغمرهم فيحتاجون إلى وسائل لادخاره وحفظه ، بل كان يعرض لهم على حسب حاجتهم شيئا فشيئا غير مقطوع فلا يحتاجون إلى الادخار ، ولا يقطع عنهم فيكون الجوع ، بل يجئ إليهم غير مقطوع ولا ممنوع ، بل مستمر رحمة من الله تعالى .