وقد ذكر سبحانه ما صنعه السامري فقال عز من قائل عنه:
{ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي 88 أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا 89} .
عندما ألقيت زينة القوم من الذهب ، وكانت أحمالا ثقالا ، وارتكبوا أوزارا كبارا لأنها كانت عاريات اغتصبوها ، وأموالا سرقوها ، لأن جحود العواري يعدُّ من السرقات . يقول المفسرون إلا من أدركوا العصر الحاضر ، وعلموا أخبار المصريين وصناعتهم ، قالوا:إن السامري رأى الأمين جبريل بعد أن صنع العجل ، أخذ قبضة من الأرض التي سار عليها جبريل أو فرسه فألقاها في المصنوع فصار يخور كما يخور العجل ، وسرى في جسمه ماء الحياة ، فصار جسدا له خوار .
ذلك كلامهم وروجوه بأمرين:بأنه جسد أو له جسد ، والجسد ، والجسد لا يكون إلا للجسم الحي ، فلا يقال عن الحجر إنه جسد ، كما لا يقال عن أي جماد إنه جسد ، والأمر الثاني:قوله تعالى:{ له خوار} والخوار لا يكون إلا لعجل حي ، فما الحيلة في هذا ، لقد أعملوا تفكيرهم مستعينين بالإسرائيليات التي حشرت في كتب التفسير فانتهوا إلى هذا القول .
ونحن نرى أن ذلك القول غير معقول ، فإن ملائكة الله تعالى لا تسير في صورة حي إلا بأمر من الله ، وإلا لنبي ، وما كان السامري نبيا ، وما كان ثمة دليل منقول يقرر ذلك القول ، وما ادعاه السامري عندما ناقشه موسى في هذا البهتان ، وإنه عدّ ذلك الإفك من تسويل النفس وتزيينها الباطل ، فكيف يكون تزينا للباطل ، ويكون بتتبع آثار جبريل ، وأيضا فإن الحياة تكون بإذن من الله تعالى ، ومع ذلك يقول السامري{. . . .وكذلك سولت لي نفسي 96} .
وإن الأمر المعقول أن تقول:إن السامري كما ذكر ألقى الذهب هو من معه ذهب من زينة القوم من بني إسرائيل ألقوها في النار فصهرت حتى صارت سائلا ، وبما تعلمه من الصناعات المصرية صنعه على شكل عجل ، ووضعه في مهب الرياح فدخل الهواء في خروقه بصوت الريح في أجوافه – فصار له خوار كخوار الثور ، وما زلنا نرى في لعب الأطفال مثل هذه الأصوات في اللعب .
وما إن رأى الإسرائيليون هذا حتى قالوا يخاطب بعضهم بعضا{ هذا إلهكم وإله موسى فنسي} ، أي السامري ،{ فنسي} هنا معناها ترك ، فأطلق النسيان وأريد تركه ، ونسب النسيان إليه مع أن عباد العجل جميعا تركوا أو نسوا عبادة الله وحده ، ونسوا الحق ، وذلك لأنه هو الذي أخرجه بصناعته ، وفي التعبير ب{ فأخرج لهم عجلا جسدا} ما يشير إلى أنه صنعه صناعة .
بقى أن نرد على من فهم أن الجسد لا يكون إلا جسما حيا يجري فيه الدم فنقول:إن الجسد والجسم لهما معنى يشتركان فيه ، ومعنى يختص به الجسم ، فالجسم يقال على كل الأشياء ما يتجسد ويصور ، وما لا يتجسد ولا يصور فيقال:
إن الماء جسم ولكن لا يقال لا جسد ، وقد ذكر ذلك الراغب في مؤلفاته ، فقد جاء فيه في مادة جسد ما نصه:
"الجسد كالجسم لكنه أخص ، قال الخليل:لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه ، وأيضا فإن الجسد ما له لون ، والجسم يقال لما لا يبين له لون كالماء والهواء ، وقوله تعالى:{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام . . .8} ( الأنبياء ) ، يشهد لما قال الخليل . وقال:{ عجلا جسدا له خوار} وقال تعالى:{ وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب 34} ( ص ) ، وباعتبار اللون يقال للزعفران جساد وثوب مجسد بالجساد".
وأظن هذا واضحا في أن الجسد يستعمل كالجسم ، والجسم أعم من الجسد .
فقوله تعالى:{ جسدا له خوار} لا يمنع أنه جسم لا حياة فيه ، وربما كان التعبير بالجسد مناسبا لقوله تعالى{ له خوار} ولكنه جسم لا حياة فيه .
ولذا قال تعالى في بيان أنه ليس فيه حياة قط:{ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا 89}