ولقد أجاب هارون أخاه موسى بعد أن هدأ واطمأن ، وذهبت عنه حال المفاجأة التي فاجأه بها قومه:
{ قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي 94} .
في هذا إشارة إلى أنه أخذ بلحيته ، كما ذكر في سورة الأعراف وقت فورة الغضب ، وكان ذكرها على لسان هارون نوعا من عتب رفيق لطيف في مودة واصلة غير مفرقة .
كان النداء لأخيه{ يا بن أم} وفهم من هذا بعض المفسرين أنهما كانا أخوين لأم ، وإلا قال:يا بن أبي ، وإنا لا نحسب أن هذا يدل على ما قالا ، وإنما يدل على كمال الحنو ، وكمال العطف والمودة والرحمة الغافرة الراضية ، فإن هذا يشير إلى أنهما اجتمعا على ثدي واحدة ودرّ عليهما غذاء واحد ، وجمعهما عطف أموي واحد وأنهما تغذيا عاطفيا بغذاء واحد ، فإذا كانا قد انفصلا أحياء ، فإن كليهما قطعتان من أم واحدة ، وأحسب أن ذكر الأب الواحد لا يتضمن كل هذه المعاني ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله قائلا:يا رسول من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال:"أمك"، قالها ثلاثا ، وفي كل مرة يقول:"أمك"، حتى إذا قال الرابعة:قال:"أبوك"{[1490]} .
{ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} هذا نهى ليس للزجر ، ولكن للمحبة وللحق ، وللبراءة من الاتهام والمؤاخذة ، وقوله{ ولا برأسي} يحتمل أنه كان قد أخذه في غضبه عن عمله وقوله برأسه ، ويحتمل أنه ذكر رأسه كناية عن تفكيره وعمله ، ويكون بذلك كنّى عن عمله وقوله برأسه التي يفكر بها ويرى ويبصر . وعلّل سكوته بعد إرشادهم وعدم اللحاق به أو استعمال العنف فيهم بقوله:{ إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} أي إني لم أعنف معهم ، ولم ألحق بك بل أخذتهم بالرفق خشية أن يتفرقوا ، وخشيت أن تقول لي إني أوقعت فرقة بينهم ، وفي الفرقة يكون التلافي والمقاومة ، فيقاوم كل فريق الآخر في قوله ، فتكون المجادلة ، ثم المحادّة ، ويضل فريق ، ويهتدي فريق ، وإنهم بلا شك قد انقسموا:فريق ضل ، وفريق هداه الله ، فلو قاومت الضالين ، كانت الحدة والمنازعة والمهاترة ، فتركتهم حتى تجئ أنت من لقاء الله تعالى ، فيكون معك نوره ، فتكون الهداية .
وخشيت أن تقول{ ولم ترقب قولي} أي لم تلاحظ قولي اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، وإنه بلا ريب لو تفرقوا وكنت سببا في هذا التفرق لكنت من المفسدين ، فالتفرق في ذاته فساد وضلال ، وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة وعودته إلى الحق قريبة ، ولكن عند التفرق يكون التعصُّب ، وتكون الفتنة بينهم في جموعهم ، وهي تزيد فتنة العبادة حدّة ، فلا يمكن حينئذ أن يجتمعوا ، إذ تتسع هُوّة الافتراق .