لم يلبثوا كثيرا حتى عادوا إلى ضلالهم القديم الثابت في رءوسهم ، ولبدته السنون ، حتى صار جزءا من تفكيرهم ، وعبر سبحانه عن ذلك بقوله عز من قائل:{ ثم نكسوا على رءوسهم} أي بعد أن جعلتهم الصدمة التي بغتتهم يفكرون ويقدرون نكسوا في تفكيرهم ، وعبر عن ذلك العلي القدير بقوله عز من قائل:{ نكسوا على رءوسهم} أي قلبت أجسامهم فصارت رءوسهم في أسفل وأجسامهم في أعلى ، وهذا كناية عن قلب التفكير من الحق إلى الباطل ، والرشاد إلى الفساد ، وكما شبه انقلابهم الفكري بالانقلاب الجسدي ، ليتصور القارئ المتدبر كيف عكس تقديرهم ، ونكس تفكيرهم ، والتعبير ب"ثم"هنا مع أن الأمر لم يتجاوز الخطاب ، للبعد بين الهداية التي بدرت والضلالة التي سيطرت ، فكانت 'ثم' مصورة لهذا .
ولما نكسوا على رءوسهم نكس أيضا قولهم في المجادلة ، فقالوا:{ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} مؤكدين أنه يعلم أن هؤلاء التماثيل لا تنطق ، وليس من شأنها أن تنطق لأنها ليست كائنا حيا فضلا عن أن يكون إنسانا ينطق ، وأكدوا أنه يعلم ذلك ب "اللام"وب "قد"، وبالنفي ب"ما"الدالة على النفي بالماضي ، وهي واقعة على المضارع المصور لعدم نطقهم في الحاضر ، فهم لا ينطقون في الماضي ولا ينطقون في الحاضر ولا القابل ، وإن هذا ما نطقوا به معترفين بعجز هذه الأحجار عن النطق في كل الأحوال ، وأي دليل ينفي ألوهيتهم أكثر من هذا ؟ إنها أعجز من الإنسان فكيف يعبدها الإنسان وهي لا تنفع ولا تضر ، ولذا قال خليل الله:
{ قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم} .