فعل{ نُكِسوا} مبني للمجهول ،أي نَكسهم ناكس ،ولمّا لم يكن لذلك النكس فاعل إلاّ أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى: انتَكَسوا على رؤوسهم .وهذا تمثيل .
والنكس: قلب أعلى الشيء أسفلَه وأسفله أعلاه ،يقال: صُلب اللص منكوساً ،أي مجعولاً رأسه مباشراً للأرض ،وهو أقبح هيئات المصلوب .
ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصباً على قدميه فإذا نُكِّس صار انتصابه كأنه على رأسه ،فكان قوله هنا{ نكسوا على رؤوسهم} تمثيلاً لتغيّر رأيهم عن الصواب كما قالوا{ إنكم أنتم الظالمون} إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرؤوس منكوسين .فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع .وحرف ( على ) للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رؤوسهم بأن انكبوا انكباباً شديداً بحيث لا تبدو رؤوسهم .وتحتمل الآية وجوهاً أخرى أشار إليها في « الكشاف » .
والمعنى: ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام ،فقالوا:{ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} ،أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك{ فاسألوهم إن كانوا ينطقون} إلا التنصل من جريمتك .
فجملة{ لقد علمت} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه{ فقالوا إنكم أنتم الظالمون} .
وجملة{ ما هؤلاء ينطقون} تفيد تقوي الاتصاف بانعدام النطق ،وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسُن .
وفعل{ عَلمت} معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده ،فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعاً على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاماً إنكارياً على عبادتهم إياها وزائداً بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر .
وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوماً لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام ،ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة .