وقد صور الله تعالى هول هذه الزلزلة ، فقال عز من قائل:
{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد 2} .
صور الله تعالى الفزع الذي ينال الناس عند رؤية هذه الزلزلة فقال:{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة} ، تذهل أي تنسى وتغفل ، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا ، وقوله تعالى:{ عما أرضعت} ، "ما"إما أن تكون بمعنى "الذي"ويكون المعنى تذهل ناسية طفلها الذي أرضعته ، وغذته من لبنها الذي هو قطعة منها ، وكأنها في هذا الحزن الداهم تنسى نفسها أو قطعة من ذاتها ، ويصح أن تكون "ما"مصدرية ، والمعنى أنها تنسى إرضاعها فتنسى تغذيه من هو كشخصها ، أو امتداد لشخصها ، ويزكي هذا التخريج التعبير بالماضي ، وكلا التخريجين يفيد أنها في حال هذا الفزع تنسى وتذهل عما لا يمكن أن ينسى أو يذهل عنه .
وإنه من هول هذا الموقف ، وتلك الزلزلة{ وتضع كل ذات حمل حملها} من الرهبة والفزع ، فالحبالى ينزل حملهن من الفزع قبل ميعاد وضعه ، ووضعه على الرغم منها لفزعها ، واضطرابها ، وكأن هذه الزلزلة تزلزل الجسم ، وتزلزل النفس ، كما قال تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا . . . 214} ( البقرة ) ، وقد صور الله تعالى حالهم بعامة رجالا ونساء ، مراضع وغير مراضع ، حبالى وغير حبالى ، فقال:{ وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} ، أي تراهم كالسكارى ،{ وما هم بسكارى} فكأن هنا استعارة مؤداها أن الناس لفرط ذهولهم ، ونسيانهم لأنفسهم شبهوا بالسكارى ، فهم في غفلة وذهاب رشد ، وضياع وعي كالسكارى ، وإن لم يكونوا في حقيقة أمرهم سكارى تناولوا مسكرا ، كما تقول لشجاع قوي هو أسد وليس بأسد ، أي أنه في شجاعة الأسد ، كأنه هو هو ، وإن كان رجلا عاقلا ، ولعل ذلك يكون أبلغ في وصفه بالشجاعة .
{ ولكن عذاب الله شديد} للاستدراك هنا لنفي السكر عنهم ، وإن كانوا كالسكارى ، وبهذا الاستدراك بين سبحانه شدة عذابه الواقع عند الزلزلة ، والمتوقع بعدها ، وأنهم يستقبلون هولا أشد وقعا ، وأعظم إيلاما ، فهو ليس إفزاعا عقليا ونفسيا فقط ، بل هو مع ذلك إيلام حسي بالنار كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .