{ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين 34} .
"المنسك"اسم مكان من "نسك"هو مكان العبادة ، والعبادة يطلق عليها النسك ، وقد اختار الله لأمة محمد البيت الحرام مكانا لنسكها وأداء العبادة في حج البيت الحرام ، والإقامة فيما حوله ، وأن يكون الذبح ، وإطعام الفقراء ،{ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} ، أي يذكروا اسم الله تعالى عند ذبحها ، شاكرين له نعمته وإذا كان الله تعالى شارع الشرائع قد جعل لكم أمة منسكا هم ناسكوه ، فذلك لأنه إلهكم أنتم وغيركم إلها واحدا ، فكان للماضين من الأمم منسك لكل أمة واحد ، وإذا كان الله واحدا أحدا ، فالمناسك كلها في ماضيها وحاضرها له سبحانه ، وهو مبينها للماضين ، كما بينها للحاضرين ، وجعل منسك أمة خاتم النبيين هي مكة المكرمة التي بها البيت العتيق ، أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة .
و"الفاء"في قوله تعالى:{ فإلهكم إله واحد} هي فاء الإفصاح ، لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ المعنى إذا كان لكل أمة منسك فالله الذي شرع المناسك واحد ، وكلها لعبادته والتقرب إليه سبحانه وتعالى ، كذلك كان منسككم ، وكان للماضين مناسك شرعها{ فله أسلموا وبشر المخبتين} ، "الفاء"عاطفة ،{ أسلموا} ، أي أذعنوا ، وأطيعوا متطامنين غير متمردين ، ولا متطاولين ولا مستطيلين على أحد ، ولذا قال تعالى:{ وبشر المخبتين} بالثواب الجزيل والنعيم المقيم ، ورضوان الله تعالى ، وهو أكبر الجزاء ، فرضا الخالق بديع السماوات والأرض غاية أهل الإيمان العليا التي هي فوق كل مبتغى .
والمخبت هو المتطامن المتواضع الذي لا يتعالى ، ولا يستطيل على أحد ، وقد قال الراغب الأصفهاني في مادة خبت:"الخبت المطمئن من الأرض ، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد ، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع ،{ وبشر المخبتين} ، أي:المتواضعين ، فالتواضع سمة المؤمنين ، والغطرسة سمة الكافرين ، والذين لم يشرب قلوبهم حب الإيمان ، وهم ليسوا أذلاء ، بل هم الأعزاء ، ولقد قال محمد صلى الله عليه وسلم:"ما نقصت صدقة من مال . وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا . وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"{[1529]} .