وقد أشار سبحانه إلى أن الناس جميعا فطرة واحدة ينبعثون عن غرائز واحدة ، ويختلفون عند اصطدام هذه الغرائز ، واختلاف النزوع باختلافها ، ولذا قال عز من قائل:
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( 52 )} .
{ وإن هذه} إن بالكسر ، على أن الواو لاستئناف كلام جديد ، له وثيق الصلة بالآية السابقة ، وقال أكثر المفسرين:إن الأمة بمعنى الدين والملة ، وأمة منصوبة بالحال ، أي أن هذه أمتكم حال كونها أمة واحدة أي على دين واحد ، وهو توحيد اللهتعالىبلغته الرسل أجمعون ، ولكن جاء الاختلاف ، فتقطعوا زبرا ، وصاروا أحزابا ، ولكن كل حزب بما لديهم فرحون ، وقوله تعالى:{ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ، أي أن ربكم واحد ، كما أن دينكم واحد ، أجمع عليه الرسل الذين بعثوا من عند الله ، والفاء في قوله تعالى:{ فاتقون} سببية ، أي بسبب أني ربكم الذي خلقكم ، ويكلؤكم بالليل والنهار{ فاتقون} ، أي اعبدوه ، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية .
هذه على تفسير أمتكم بمعنى دينكم الواجب اتباعه ، ولا يصح أن تسمي غير التوحيد دينا قيما ، وقد عرض لي أن نفسر كلمة أمة بما فسرناها به في سورة البقرة ، في قوله تعالى:{ كان الناس أمة واحدة . . . ( 213 )}[ البقرة] ، أي صنفا على طريقة واحدة ، وعلى غرائز واحدة وقد تتناحر نوازع نفوس التي تسير وراء الغرائز من غير تهذيب بدين يجيء به نبي مرسل ، وبذلك يترتب التقاطع منهذه الوحدة في الغرائز والطبائع ، فإذا كان حب الغلب غريزة ، فإنه لا بدّ من التغالب ، لأن كلى يجد في نفسه دافعا لأن يكون هو الغالب ، فيكون التنازع والتقاطع ، ويكون التعبير بالفاء في قوله في الآية الآتية:{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا . . .} ، أي أنه جاء التقطع من وحدة الغرائز .
هذا ما بدر لنا ، والله أعلم بمراده ، وقوله:{ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ، أي أن النداء بالتقوى لكف الغرائز ، وتهذيبها هو الذي يكفها ، ويجعلها في ميزان الاعتدال .