الماء وأثره في الوجود
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الماء في تشبيه أعمال الكافرين ، والماء العذب في تكوينه ، وذكر معه إنزاله على من يصيبه ، ونعمته في صرفه عنه إن لم تكن الأرض صالحة للزرع ، حتى لا يكون غيثا بدل أن يكون غيثا ، فكان في هذه الآية مبينا لنعمة الماء في الحياة والأحياء بشكل عام كما قال تعالى في كتابه العزيز:{. . . وجعلنا من الماء كل شيء حي . . . ( 30 )} [ الأنبياء] ، وذلك يعم الحيوان والنبات ، والأشجار ، من كل حي ، وهنا يخص الأحياء من الحيوان ، فيقول عز من قائل:{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} وصدّر الآية الكريمة بلفظ الجلالة للإشارة إلى اختصاصه بالعبادة ، لأن لفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية ، وكل ما يذكر بعد ذلك من خلقه يكون دليل ألوهيته سبحانه ، فالمخلوق يدل على الخالق ، وكذلك كل عبادة سامية لله جل جلاله ، ودلت على الخلق يكون فيها هذا المعنى الجليل .
والدابة من دب يدب ، واسم الفاعل الداب ، وألحقت به التاء للدلالة على المبالغة ، وهي تشمل الحيوان جميعا ، فكل حيوان يدب على الأرض ، ويسير عليها ، بقدرة الله تعالى ، وخلقها من الماء معناها أن الماء من الأسباب الجوهرية لحياتها بخلق الله تعالى وإرادته ، والماء مصدر حياتها بإذن الله وتمكينه وجعله ، لأن الماء ريها ، ولا يحيا الحي إلا بشربه ، وغذاء الحيوان كله مما ينبت من زرع ، ويغرس من أشجار فيها ثمار مختلفة ، حتى الحيوانات آكلة اللحوم غذاؤها يعود إلى الماء ، لأنها تتغذى من النبات ، والحيوان كله آكلا ومأكولا من النبات ، كما قال تعالى:{ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل . . . ( 4 )} [ الرعد] .
فالحيوان من الماء ، بل الأحياء كلها من حيوان ونبات من الماء ، والفرق بين الحيوان والنبات أن النبات غذاؤه من الماء مباشرة ، والحيوان يرتوي من الماء ، ويأخذ غذاءه من النبات الذي كان تكوينه من الماء .
وبين سبحانه وتعالى تنوع خلقه في الحيوان لبيان عدم التفرقة في الخلق بين حيوان يمشي على بطنه زاحفا وبين حيوان على رجلين سائرا ، وما يمشي على أربع ، فقال عز من قائل:{ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحيات والديدان ، وغيرها من الزواحف ، ومنهم من يمشي على رجلين ، كالإنسان والطيور ، ومنهم من يمشي على أربع كالإبل والبقر والغنم ، والفيل ، والذئب ، والأسد والكلب ، وهنا ثلاث ملاحظات:
أولاها:أن الفاء هنا للإفصاح ، فهي بيان أو جواب لشرط محذوف .
الثانية:التعبير ب{ من} وهي تشمل العقلاء ، وغير العقلاء ، وقالوا:إنها إذا كانت للعموم جاز التعبير ب ( من ) عن الجميع ، وذلك تعبير عن الأعظم ، والأكمل حيوانية ، كما يعبر عن الجمع الذي يشمل الذكور والإناث بلفظ الذكور .
ثالثها:أن من الحيوان من يكون ذا أرجل أكثر من أربع ، ولم يذكر أو يشر إليه ، والجواب عن ذلك أن ذا الأرجل الكثيرة مشير إلى أربع منها ، فهو مذكور أو نقول إن الآية لم تذكر الكل ، أو أشير بذكر الأربع ، سيرا للاطراد بالزيادة فذكر أولا ما لا رجل له ، ثم ما له رجلان ثم ما له أربع ، ثم بالإشارة ما له أكثر ، وخصوصا أن الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى:{ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} ، فإن ذلك يشير إلى أنه يخلق الأكثر من أربع كما يشاء ، وهو قادر على كل شيء .