بعد بيان نعمته على عباده في الليل والنهار ، وبيان أن النفوس تستروح الراحة في الليل ، وتنهض للعمل في النهار لطلب الرزق بين سبحانه أنه يرزق الناس بما يكون مادة عملهم ، وفيه معاشهم ، فقال الحكيم العليم الخلاق العظيم:
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ( 48 ) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ( 49 )} .
الضمير لله جل جلاله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة ، وأرسل الرياح أطلقها ، كأنها مقيدة بإرادته سبحانه ثم أرسلها ، والرياح جمع ريح ، وهي تتلاقى في استقامتها مع الراحة ، كما تتلاقى في وقائعها مع الراحة أيضا ، وإن كانت المعاني ليست واحدة ، أطلقها سبحانه وتعالى لتكون مبشرة للناس بنزول الماء الطهور ، ولذا قال تعالى:{ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وبشرا مخففة من بشر بضم الاثنين ، جمع بشور ، أي مبشر ، والمعنى على ذلك مبشرات برحمته ، وهو إنزال الماء الطهور ، الذي يطهر من الأرجاس ، ويسقي الزرع والغرس والحيوان ، والإنسان ، ويصح أن تكون جمعا لبشرى ، وهي في نظرنا أظهر والمؤدي واحد ، وهو أنها مبشرات ، وقد تكون الرياح عواصف جدباء ، وليست هذه التي تكون بشرا ، بل إنه يكون نذيرا من النذر كما وقع لعاد قوم هود ، ولثمود قوم صالح ، وقوله تعالى:{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أنها مقدمة لرحمته تليها الرحمة الإلهية لخلقه ، وفي هذا الكلام تشبيه حسن باستعارة تمثيلية ، فقد شبهت الرياح الممطرة غيثا بمن يسير وأمامه في سيره رحمة مباركة طيبة ، ورشحت وقويت الاستعارة بقوله بشرا فإنها تقوى معنى المشبه به ، والاستعارة إذا كانت مقواة بما يكون فيه معنى المشبه به كانت مرشحة أي مقواة . وقول{ بشرا} قرئت بالنون ، أي نشر جمع نشور ، كما جمع رسل من رسول ، والمعنى أنها تنتشر وتعم لتعم الرحمة ، ونذهب إلى أن القراءتين المتلاقيتين في المعنى نجمع بينهما فيكون المعنى أن الرياح فيها وصفان أحدهما أنها مبشرة بالخير ، والثاني أنها منتشرة وعامة .
ويكون المؤدي أن كل قراءة آية قائمة بذاتها ، وهي قراءة ، والجمع بينهما يكون الجمع بين آيتين ، في أوجز لفظ ، وبالجمع تكون الرياح مبشرات ومنتشرات ، والله هو الرزاق ذو القوة المتين .
وقال تعالى:{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} والسماء هنا جهة العلو ، أنزلنا من السحاب الذي حملته الرياح المبشرة المنتشرة ماء طهورا ، والطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، وإن أطهر الماء هو ماء المطر ، لأنه فوق خلوه من الأنجاس الحسية والقاذورات هو خال خلوا تاما من جراثيم الأمراض الوبائية وغيرها ، ووصفه بطهور ينبئ عن ذلك ، وإنه ينزل كذلك ثم يكون تلوثه بجراثيم الأمراض بعد ذلك بمكوثه في الأرض واستقراره بها .
وإنه في الشريعة يطهر الإنسان طهارة حسية بإزالة الأنجاس الحسية ، وطهارة معنوية بالاغتسال والوضوء ، وإنعاش الأجسام بالاستحمام ، والاستراحة من وعثاء الأعمال ، وكل هذه نعم تعم البر والفاجر .