وقد بين سبحانه غاية هذه الماء الطاهرة ، أو عاقبة نزوله بإرادة الله تعالى وأمره الذي لا معقب له ، ولا راد لفضله ، فقال{ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} .
اللام لام العاقبة ، وليست لام التعليل في نظرنا ، لأن أفعال الله جل جلاله لا تعلل ، ولكنها لام العاقبة وبيان اقتران نعمة الله تعالى بهذا الخير العميم ، وقد ذكر الله تعالى ثلاث نعم كل نعمة تشير إلى ما وراءها .
النعمة الأولىإحياء موات الأرض ، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته:{ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} البلدة الميت هي الخالية من الزرع والماحلة من الغرس ، ولا ينتفع بها في بناء أو غيره ، بل هي معدة للزرع والغرس ، وإحياؤها هو سقيها ، وإزالة أسباب بوارها ، وزرعها أو غرسها ، والماء هو حياة الزرع والغرس ، وخلق الله تعالى من الماء كل شيء حي ، يلاحظ هنا أن كلمة "بلدة"مؤنث لفظي ، وهو دال في ذاته على البقعة ، فكيف يوصف بكلمة ميتا الخالية من التاء ، قال علماء البيان:إنه أريد بالبلدة مكانها ، فميتا وصف للمكان وهو الذي يوصف بأنه محل خاو من الزرع والضرع ، فكان حذف التاء ، فيه إيماء إلى ما يجري فيه الإحياء وهو المكان وليس البلدة التي تتكون من البيوت والدور ، وهي لا تكون إلا حيث يحييها الله تعالى بالزرع ، وإن إيراد المكان بالبلدة هو الذي يتفق مع السياق ، والبيان:
وقال علماء البيان أيضا:إن الوصف بميت من غير تاء فيه مبالغة في محلها ، وجدبها وخلوها من النبات ، وما به ينبت ، أي أن الجدب حال مستمرة باقية يراها الناس كذلك ، وذلك وجه معقول كسابقه .
وسمى الله تعالى وجود الزرع والغرس ، وما يتبعهما من إحياء ، تشبيها بالحياة ، أي أن الأرض في حال جدبها كالميت ، وفي حال زرعها واستغلالها كالحي ، وكل بفضل من الله تعالى ، ذلك أنه إذا كانت الأرض ماحلة لا حياة لها بزرع أو غرس ، فإنه قد يكون باطنها عامرا بالمعادن فلزات وغير فلزات كما نرى في الصحاري في بلاد الحجاز ، وفي الصحراء الغربية في تخوم ليبيا والجزائر ، ومصر ، وفي العراق وإيران ، وغيرها من أرض الله تعالى العليم القدير .
النعمة الثانيةسقي الحيوان من الأنعام وغيرها ، وذلك قوله تعالى:{ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} أشار في هذه الآية إلى ثلاث نعم في ضمن نعمه أولها:السقي ذاته فهو نعمة ، وثانيها:أن الأنعام يسقين خلق الله تعالى ، وهي تكون حاملة وعاملة ، وثالثها:أنها حيوان هي نعم في ذاته ، ولذا سميت الأنعام .
ورابعها:سقي الأناسي ، وهي جمع إنس بمعنى الإنسان ، وهذه نعمة أخيرة ، وهي نعمة الري ، ودفع العطش القاتل ، إنه هو المنعم الكبير .