{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( 8 )} .
تدرجوا في الادعاء من أعلى إلى أدنى فاشترطوا لاتباعه أن يكون منضما إليه ملك ليكون معه نذيرا ، فيكون الملك شاهدا بصدق الرسالة ، ومن قبل طلبوا أن يكون معه قرطاس ، أو أن يكون الرسول ملكا ، وقد رد الله تعالى كلامهم ، وأنهم لا يؤمنون ويقولون هذا سحر مبين ،{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 )} [ الأنعام] .
وقد نزلوا عن اشتراط أن يكون معه ملك إلى أمر آخر يمنع أن يمشي في الأسواق بأن يغنيه عن ذلك شأن الكبراء ، بأن يلقي إليه ، أي يعطى كنزا يغنيه ، وعبّر عن إعطاء الكنز بكلمة يلقي إليه للإشارة إلى أن هذا العطاء لا يكلف من أرسله شيئا ، لأنه إلقاء من خزائن الله تعالى ، وقد كانوا يعرفون الله ولا يعبدونه ، فيعرفون أن معه خزائن السموات والأرض ، ويكون بهذا الكنز كملوك أهل الأرض فلا ينزل إلى الأسواق كما ينزل دهماء الناس والفقراء .
وتنزلوا من مرتبة الملوك إلى مرتبة أتباعها وحواشيهم ، الذين يمنحهم الملك الحدائق والمزارع ، فقالوا:{ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} ، أي بستان يغنيه بثماره وغلاته ، فيأكل منها بدل أن ينزل الأسواق .
وإن هذا بلا ريب نظرات ناس ماديين لا يؤمنون بالروح ، ولا بالمعاني الإنسانية العالية ، إنما يؤمنون بالمادة وحدها ، والعلو عندهم بالسيطرة الممكنة من لذائذ هذه الحياة ، إما بملك قاهر ، أو بمتع يلقيها إليهم ملوك قاهرون .
ولكنهم يرون في محمد صلى الله عليه وسلم ما ليس عند الملوك وحواشيهم ، يرون القرآن الذي عجزوا عن أن يأتوا مثله ، ورأوا أتباع محمد ينمون ولا ينقصون ، ورأوا ميل بعض كفارهم إلى سماع القرآن وما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم .
رأوا ذلك ، ولم يستطيعوا دفعه ، ولكن بدل أن يذعنوا للحق إذ تبين لهم ، ادعو أن ما يجيء به هو السحر ، فظلموا ظلما كبيرا .
{ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( 8 )} .
هنا إظهار في موضع إضمار ، وذلك لوصفهم بالظلم أولا ، ولبيان ظلمهم وعدم إرادتهم الحق هو الذي رفعهم إلى رمي النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر ، وهو يتكلم عن الله تعالى:{ إن تَتَّبِعُونَ} إن هنا نافية ، أي لا تتبعون إلا رجلا مسحورا ، أي ينطق على لسانه الحق ، وهذا يومئ إلى أنهم رأوا عجائب فبذل أن يقولوا إنها من عند الله قالوا:إنه مسحور ينطق على لسانه الجن والشياطين .
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه كان من أهل مكة من يريدون اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اتبعه من اتبعه .