{ وإذ غدوت من اهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم121 إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون122 ولقد نصركم الله ببر وانتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون123}
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى ما بيته أعداء المسلمين من خبال وآذى ينزلونه بهم إن اتخذوا منهم بطانة يلقون إليهم بالمودة ويكشفون سرائرهم لهم ، وبين ان أولئك المنافقين تسؤهم مصلحة المؤمنين ، وتسرهم مساءتهم ، وانه لا علاج إلا ان تحذروهم وتصبروا عليه ، وتتقوا الله تعالى ، وتصونوا أنفسكم عن تمكينهم من الذي ، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى بعض صنيعهم في شديدة المسلمين ، وكيف كانوا يبثون الشك والفوضى في نفوس المجاهدين ، مما جعل بعضكم يفكر في أن يفشل ويعجز وتخور عزيمته ، ولقد أشار سبحانه في ذلك إلى غزوة احد وغزوة بدر ، فقال سبحانه:
{ وإذ غدوت من اهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} هذه الآية وما تليها نزلت في غزوة أحد ، إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم في السحر من السابع من شوال في السنة الثالثة من حجرة عائشة ، وأخذ يصف المؤمنين للقتال ، ويقف كل فريق منهم في موقفه ، وقد جعل الرماة من وراء المقاتلين ، وأمرهم بأن يكونوا وراء ظهور المقاتلين ينضحون عنهم بالنبل ، وقال لأميرهم:"انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك"وأمر الجيش كله ألا يتحرك إلا عندما يأذنه بالحركة ، حتى إن أحد الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت أفراسها وإبلها في زروع المسلمين ، وقال:"أتى زروع بني قيلة( يعني الأنصار )".
وهذا مؤدى قوله تعالى:{ وإذا غدوت من اهلك} ومعنى غدوت:أصبحت مبكرا مسارعا إلى تنظيم جيش المؤمنين جيش الله تعالى ، والغدوة والغداة اول النهار ، ويذكر الغدو والغداة اول النهار ، ويذكر الغدو مقابلا بالآصال أي وقت العصر وقبل المغرب ، ومن ذلك قوله تعالى:{ في بيوت أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال36}[ النور] . وقوبلت الغداة بالعشي ، ويطلق الغدو على الذهاب ويكون مقابلا للرواح ، ومن ذلك قوله تعالى في الرياح:{ غدوها شهر ورواحها شهر . . .12}[ سبأ] وذلك لأن الذهاب عادة يكون في البكور ، وتبوئ معناه تسهل وتنظم وتثبت ، وأصله من البواء وهو مساواة الأجزاء في المكان ، وبوأت له مكانا سويته ، ومن ذلك قوله تعالى:{ وأوحينا إلى موسى وأخيه ان تبوءا لقومكما بمصر بيوتا . . .87}[ يونس] . وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى:{ تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال}أي تسوي لهم بالتنظيم والترتيب مقاعد للقتال ، فهي إذا تتضمن معنى التنظيم والتهيئة والاستعداد ، ولقاء المشركين صفا واحدا ، كأنهم بنيان مرصوص .
وهذا التنظيم إنما هو بيان مواقف القتال ، وموضع كل فريق في الموقف الذي يقفه ، ولكن النص السامي الكريم قال:{ مقاعد للقتال} فعبر عن المواقف بالمقاعد للإشارة إلى وجوب الثبات والسكون ، حتى لا يتحركوا إلا بأمر من القائد الأعظم وهو النبي صلى الله عليه وسلم . وقد كان الثبات سبب النصر في غزوة احد ، والهزيمة كان سببها عدم الاستمرار في البقاء في مواقفهم ، ذلك ان الرماة عندما رأوا المؤمنين قد انقضوا بأمر النبي صلى اله عليه وسلم على المشركين يقتلونهم ويزيلونهم عن مواقفهم ، تركوا مواقفهم وذهبوا وراء المؤمنين يغنمون ويأخذون ، فانقض عليهم من ورائهم فرسان المشركين ، فتفرقوا ، وهذا قوله تعالى:
{ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . . .152}[ آل عمران] ومن هنا كانت إصابة المسلمين في موقعة أحد .
{ والله سميع عليم} ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص السامي لبيان انه تعالى مطلع على ما كان يجري بين المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم من مشاورات ، وما استقر عليه رأى كثرتهم ، ثم نزوله عليه الصلاة والسلام عند رأى الكثرة ، ثم عدول الكثرة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قول النبي لهم معتزما إمضاء ما قرروا اولا ، وإن كان غير رأيه الذي مال إليه ، ليعلمهم ان التردد ولو للصواب المحتمل ضرره أكثر من المضي ولو في الرأي المحتمل للخطأ ، فإن صواب الحروب وخطاها ،لا يتبين ، وإن التردد فيها يقتل ، والمضاء فيها ينصر ، وبين بهذا التذييل أيضا ان الله تعالى عليم بخفايا القلوب ، فهو يعلم ما تهم به قلوب المؤمنين ، وما توسوس به قلوب المنافقين ، وما يبثونه من روح الذعر والهلع في نفوس المؤمنين ، وبحديثهم مستجابا في قلوب ضعفاء الإيمان ، وهم الذين قال القرآن عنهم:{ في قلوبهم مرض . . .10}[ البقرة] .
ولقد علم الله ما كان من المؤمنين والمنافقين من مناقشات عندما ساور المدينة المشركون في العام الثالث ، وأرادوا ان يثأروا من الدماء التي أصابتهم في بدر ،فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليستشيرهم في المر ، أيخرجون إليهم ، ام يبقون حتى يجئ العدو إليهم في الديار ، فقال بعض المؤمنين( أقم يا رسول الله بالمدينة ، ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ) . وعارض ذلك الرأي الأكثرون ممن لم يحضروا بدرا فقالوا( اخرج بنا يا رسول الله إلى هؤلاء الأكلب لا يرون انا قد جبنا عنهم ) . وما زال أولئك الذين لم يحضروا بدرا حتى نزل عند رأيهم ، وقد كان إلى الأول أميل .
وتركهم وعاد إلى أهله{[562]} ليلبس لمه الحرب ،فتلاوم المسلمون فيما بينهم ، وقال قائلهم:بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ؟فلما جاء إليهم الرسول قالوا:اصنع يا رسول الله ما رأيت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ذو العزم:"ما كان لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف ، وكان مع المسلمين طائفة من المنافقين ، على رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، فرأى ان يحدث الخلل في الصفوف فرجع ومعه نحو ثلاثمائة ممن على شاكلته وضعاف الإيمان ، وبرز تخاذله بأنه كان يرى الا يخرج إليهم المؤمنون وان يبقوا بالمدينة ، ومنهم من زعم انه لا قتال ، وقالوا:{ لو نعلم قتالا لاتبعناكم . . .167}[ آل عمران] .