وقد ظهرت عداوة المنافقين ، وبرزت نياتهم ، وتكشفت سرائرهم ، حتى عن أعمى منهم قد مر النبي في بعض أصحابه بحائطه( أي بستانه ) فأخذ يحثو التراب في وجوههم ، ويقول وقد اخذ حفنة بيده:لو انى اعلم انى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب ،أعمى البصر"وفي وسط تلك الزوبعة التي أثارها المنافقون بانشقاقهم عن الجمع وعودتهم إلى المدينة ألقوا الرعب في قلوب بعض الضعفاء ، حتى لقد هم بعض المؤمنين بالفشل ، وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى:{ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما} .
الهم هو حديث النفس واتجاهها إلى امر معين من غير تنفيذ ، فحديث النفس هو ما يأخذ طريق التنفيذ ، فإذا اخذ طريق التنفيذ فهو إرادة وعزيمة ، ومن ذلك قوله تعالى:{ وهموا بما لم ينالوا} والفشل ضعف مع جبن ، ومن ذلك قوله تعالى:{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . . .46} [ الأنفال] ومن ذلك أيضا قوله تعالى:
{ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} ومعنى النص اذكر أيها النبي الكريم انت وأمتك أثر إفساد المنافقين إذ اتخذتم منهم بطانة ، اذكر ذلك إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا ،أي إذ حدثت نفسها طائفتان من المؤمنين لا من المنافقين ان تفشلا تضعفا في وقت الشديدة والكريهة ، مع ان الله تعالى وليهما وناصرهما ، ومن يكون الله معه لا ينهزم إلا إذا خالف أوامر الله وأوامر نبيه وقائده العلى ، فذكر ولاية الله تعالى في هذا المقام لسببين:
أحدهما:أن المنافقين استطاعوا ان يؤثروا في المؤمنين ذلك التأثير السيئ مع ان المؤمن يشعر دائما بولاية الله تعالى وعزته ، وانه سبحانه وتعالى ينصر من ينصره ، وهو القوي العزيز ، وان هذا يوجب ان يعمل الهادي والمرشد على ان يصون نفوس المؤمنين من ان يدخل إليها شياطين الإنس من المنافقين والمخادعين .
الثاني:ان ذلك فيه معنى التوبيخ لأولئك الذين تأثرت نفوسهم بأولئك المنافقين لأنه ما كان ينبغي لهم ان يستمعوا إلى دعاية المنافقين ، او ان يفتحوا لها بابا تدخل منه إلى قلوبهم ، ولكن هكذا البشر تتسرب إلى نفوسهم وسوسة الشيطان من حيث لا يشعرون .
وإن الطائفتين اللتين همتا بالفشل هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج ، وكانا جناحي العسكر يوم أحد ، وقد ذكر البخاري عن جابر قال:فينا نزلت:{ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما} .نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب انها لم تنزل لقول الله عز وجل:{ والله وليهما} .
{ وعل الله فليتوكل المؤمنون} وإذا كان الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين حتى من يهم ان يضعف متأثرا بحركات المنافقين ، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون ، والمؤمن بوصف كونه مؤمنا لا يعتمد على حليف او نصير ، وإنما يعتمد على الله تعالى وحده ، فإذا كان المنافقون قد خذلوا المؤمنين في ساعة العسرة فإن الله معهم وناصرهم ، ولن يخذلهم ما داموا آخذين بأوامره منتهين عن نواهيه ، ولن يتمكنوا منهم في هذه الحال أعداؤهم{ والله من ورائهم محيط20}[ البروج] .
والتوكل الحقيقي لا يستدعي ترك الأسباب ،فإنه لا توكل إلا بعد الأخذ بالأسباب ، إذ إن حقيقة التوكل الذي طالب الله تعالى به هو انه يأخذ بالأسباب ويستعد ، ثم يترك الأمور لله تعالى ،فإنه قد يعرض للإنسان ما ليس في حسبانه ،فعليه ان يترك تلك المنطقة الغيبية لعلام الغيوب ، والدليل على أن التوكل في القرآن والسنة يستدعي اتخاذ الأسباب ، أنه يجتمع مع الجهاد والمشاورة ، فالله تعالى يقول:{ وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله . . .159}[ آل عمران] .
وفي الآية التي نتكلم في معانيها السامية جاء الأمر بالتوكل بعد ان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، ويأخذ الأهبة ويستعد ، وإذا كان التوكل ترك الأسباب فلم كان الأمر بالعمل والقتال وغيره من التكليفات التي تكون سببا لنتائج شرعية .