{ ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة} بعد ان أشار سبحانه على تأثير اهل السوء مع كثرة المؤمنين-في غزوة احد وكيف حاولوا ان يوهنوا عزائم المؤمنين اخذ سبحانه وتعالى يبين غزوة بدر ، وقد كانت وليس بين المؤمنين منافقون ؛لأن أولئك المنافقين ما دخلوا إلا بعد ان وجدوا ان كلمة الله هي العليا ، فاظهروا الإسلام وأبطنوا غيره ، وكان منهم يهود ومنهم مشركون ، فكان المسلمون قلة ، ولكن لأنه لم يكن بينهم منافقون ، ولم يتخذوا بطانة من غيركم نصرهم الله سبحانه وتعالى . والمعنى ان الله تعالى نصركم والحال أنكم كنتم قليلا وكنتم مستضعفين في الأرض كما قال تعالى:{ واذكروا إذ انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون26}[ الأنفال] .
وإن ذكر هذا يدل على أمرين:أحدهما:انه لا بد من التفويض إلى الله تعالى مع اخذ الأسباب ، والثاني:ان القلة مع نقاء القلوب وتلاقي العزائم يكون معها النصر ؛ لن توحيد الغرض قوة في ذاته تكافئ قوة العتاد والعدة .
وقد يقول قائل:كيف يعبر القرآن الكريم عن المسلمين بأنهم كانوا أذلة قبل بدر ، والذلة أمر نفسي ، وما كانوا كذلك في أي دور من أدوارهم ، فأولئك الضعفاء الذين كانوا يفتنون في دينهم فلا يغيرون هم في عزة نفسية أكثر من مضطهديهم ، والله تعالى يقول:{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . . .8}[ المنافقون] ويقول في وصف المؤمنين:{ غنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون55}[ المائدة] ويقول تعالى:{ أشداء على الكفار رحماء بينهم . . .29}[ الفتح] ؟ .
والجواب عن ذلك ان الذلة التي وصف بها المؤمنون قبل بدر هي مظاهرها من ضعف العدة ، وقلة العدد وقلة المال ، حتى غنه لم يكن معهم ظهر ، وقد خرجوا للقاء المشركين في بدر ، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة أذلة:"والأذلة جمع قلة ، والذلان جمع الكثرة ، وجاء بجمع القلة ،ليدل على انهم على ذلتهم كانوا قليلا ، وذلتهم انهم خرجوا على النواضح ،يعتقب النفر منهم على البعير الواحد ، وما كان بينهم إلا فرس واحد ، وقلتهم انهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وكان عددهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ، ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة ) .
فليست الذلة ذلة النفوس غنما هي ظاهر الحال وما كان فيه من ضعف .
{ فاتقوا الله لعلكم تشكرون}إذا كان النصر من عنده تعالى ، وهو ولي المؤمنين ، فعليهم أن يتقوه ، والتقوى معناها استشعار هيبته وجبروته وعظمته وقوته ، وانه إن أراد بقوم خيرا فلا يستطيع اهل الدنيا ان يمنعوه ، وإذا أراد بقوم سوءا فلا يستطيع ان يمنعه من قوة الله تعالى ، فلا عزة إلا منه ، ولا ذلة إلا في عصيانه ، وان التقوى على هذا المعنى توجب الشكر ، ولذلك قال بعد الأمر بالتقوى:{ لعلكم تشكرون} أي اتقوا الله تعالى وهابوه ، وأقروا بأن الكبرياء له وحده في السموات والأرض ، رجاء ان تشكروه بهذه التقوى ، والرجاء من العبيد لا من الله تعالى ، فهو الغني الحميد ، فالتقوى هي في الحقيقة شكر الله تعالى ، لأنه سبحانه هو لمنعم وهو المتفضل في كل ما يتعلق بالإنسان من نعم هذا الوجود ، وشكره ان تعرف حق ما أسدى ، وما تدل عليه النعم من جلال الله وعظمته ، فاللهم وفقنا لتقواك ، ليتحقق منا شكرك ، إنك انت العلي الوهاب .