في هذه الآيات حديثٌ عن معركة بدر التي كانت أوّل معركة بين المسلمين والمشركين ،وقد واجه فيها المسلمون التحدّي الكبير في صراع القوّة الذي حدّد للمسيرة الإسلامية طريقها الطويل على هدى مواجهة القوّة بالقوّة على أساس الحقّ والعدل ...وكانوا في موقع الضعف من حيث العدد والعُدّة ،بينما كانت قريش التي تمثِّل قوّة الشرك ،كبيرة فيهما معاً .ولكنَّ اللّه أراد للمسلمين النصر ،فأودع بينهممن خلال إيمانهمروح الإرادة والعزم على المجابهة حتّى النهاية والتضحية حتّى الاستشهاد ،وأثار في جوّ المعركة لوناً من ألوان الغيب الإلهي المتمثّل في نزول الملائكة بطريقة خفيّة من أجل دعم الروح المعنوية التي كانت معرّضة للانهيار بفعل الظروف الصعبة المحيطة بالمعركة التي لم تكن معدّة إعداداً دقيقاً ...
ولكن لِمَ هذه الإثارة لمعركة بدر في أجواء معركة أُحد ؟هل المقصود هو ربط الذكريات بمثلها في خلق جوٍّ من التشجيع النفسي حتّى يُقدم النَّاس على المعارك الجديدة بروحية المعارك القديمة ،أو أنَّ المقصود هو ما ذكره البعض من بيان قضية حاسمة ،وهي أنَّ الانتصار في معركة من المعارك لا يُعدُّ نصراً حاسماً ،ولا الانكسار في معركةٍ من المعارك يكون انكساراً نهائياً ،وإنَّما النصر النهائي للصابرين الثابتين والمتقين المخلصين ،أو أنَّ هناك شيئاً آخر ربَّما يكون أبعد من هذا الوجه أو ذاك ،وإن كان غير منافٍ لهما من حيث الجوّ العام ؟
لعلّ المقصود من ذلكواللّه العالمهو التأكيد على ربط النصر باللّه في المعارك الإسلامية الفاصلة ،حتّى يظلّ المؤمن مشدوداً للّه في حربه في عمليّة تعميق الإحساس بالقوّة ،وعدم الخضوع للأوضاع الاستعراضية المضادة التي يُراد منها هزيمة المسلمين روحيّاً ونفسيّاً ،وذلك باستحضار قوّة اللّه وعنايته بعباده المؤمنين ورعايته لهم في كلّ أوضاعهم ومشاكلهم ،والشعور بأنَّ قوّتهم لا تمثِّل إلاَّ ظلاً خفيفاً من ظلال قوّة اللّه ورحمته ؛فهم يشكّلونفي هذا المجالدور الإرادة المنفعلة بخالقها لا دور القوّة المستقلة بذاتها ...فإذا كان النصر ،ذكروا اللّه بالإحساس بالامتنان على ما هيّأ لهم من أسبابه ،وإذا كانت الهزيمة ،ذكروا اللّه معها وعرفوا بأنَّها كانت نتيجةً طبيعية لعدم الأخذ بأسباب النصر ،ولنسيان اللّه في أكثر حالاتهم ...وهكذا يتأكد الإيمان باللّه كحقيقةٍ تهزّ كيانهم بالحركة والإشراق والانفتاح على الحياة بكلّ عناصرها الفاعلة المتنوّعة ،فلا يبقى مجرّد فكرة تعيش في زاوية مغلقةٍ من زوايا الشخصية الإنسانية بشكلٍ عاديٍّ جامدٍ .وهذا ما يريد القرآن أن يثيره في أعماق الشخصية وفي كلّ النشاطات الإنسانية ،بأن يظلّ الإنسان خاضعاً لعبوديته للّه واستسلامه له في أموره ،حتّى ليشعر أنَّه لا يستطيع أن يحرّك أيّ شيء إلاَّ باللّه ومن اللّه ،وهذا ما نواجهه بارزاً في هذه الآيات ...
[ ولقد نصركم اللّه ببدرٍ وأنتم أذلَّةٌ] ضعفاء لا تملكون أيّة فرصةٍ عاديةٍ للقوّة والعزّة [ فاتَّقوا اللّه] في مسيرتكم وفي وعيكم للدور الذي يجب أن تقوموا به في الجهاد في سبيل اللّه والعمل من أجله ...[ لعلَّكم تشكُرون] لأنَّ التدبّر في آفاق نصر اللّه لعباده المستضعفين يفرض الشكر العملي على الإنسان في كلّ ممارساته ومنطلقاته ...