{ والذين إذا فعلوا فاحشة او ظلمهم انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}هذا هو الوصف الخامس من أوصاف المتقين الذين أعدت لهم الجنان التي عرضها كعرض السموات والأرض ، والفاحشة هي المعصية الزائدة التي تكون خارجة على مقتضى الطبيعة الإنسانية الفاضلة ، وقد غلبت على الزنا ، وبذلك فسر بعض العلماء الفاحشة هنا ، وعلى هذا الرأي يكون المراد من قوله تعالى:{ أو ظلموا انفسهم} كل ذنب غير المعصية ، وقال آخرون:الفاحشة الذنب الكبير ، وظلم النفس الذنب الصغير ، وبعض المفسرين يقول الفاحشة ما يتعدى أذاها إلى غيره ، وظلم النفس ما لا يتجاوز الأذى نفسه ، ويكون هذا كقوله تعالى:{ ومن يعمل سوءا او يظلم . . .110}[ النساء] وهذا كله على ان الفاحشة وظلم النفس أمران متغايران ؛ وبعض العلماء على أنهما وجهان للمعصية ، وان كل معصية كبيرة فيها هذان الوجهان وتكون "او"بمعنى"الواو"، ويكون المعنى:من يرتكب فاحشة ويظلم نفسه ، ويتذكر الله عند ارتكابها فيعود إلى ربه يكون من المتقين ؛ وإلى هذا نميل ، والتعبير بصيغة الشرط{ إذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله} يفيد اقتران الجواب بالشرط ، أي ان ذكر الله يكون عند الارتكاب ولا يكون بينهما تراخ يجعل الشر يفرخ في النفس ، فالتوبة إلى الله تكون فور الارتكاب لا تراخي بينهما ولا يستمر في المعصية حتى تحيط به خطيئته ، وهذا ما صرح الله تعالى به في قوله:{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما17}[ النساء] .
ومعنى قوله تعالى:{ ذكروا الله} أي تذكروا اوامره ونواهيه وتذكروا عظمة الله تعالى وجلاله وقوته ، ولذكر الله تعالى مرتبتان( أحدهما ) ذكر اوامره ونواهيه وما اعده للمذنبين وما اعده للمتقين( والثانية )وهي العليا ذكر جلاله وعظمته وعلمه بما تخفي الصدور وهذه لا ينالها إلا الأبرار المقربون .
وإن ذكر الله تعالى لا بد ان يتبعه لا محالة الاستغفار والإنابة ، ولذا عقبه سبحانه بقوله:{ فاستغفروا لذنوبهم} فهو ثمرة ملازمة ونتيجة محتمة للذكر .
{ ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}الكلام موصول بالكلام السابق ، وقوله تعالى:{ ومن يغفر الذنوب إلا الله}فيه بيان إجابة الاستغفار وفيه بيان انه لا مفزع من الله إلا إليه ، ولذا يقول الزمخشري في قوله تعالى:{ ومن يغفر الذنوب إلا الله}"وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وغن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وإنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله ، وان عدله يوجب المغفرة للتائب لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز ، وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وغن الذنوب وغن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم".وذلك كلام مستقيم لولا انه اوجب المغفرة حيث التوبة ، والله تعالى لا يجب عليه شيء ، وإن رحمة الله بعباده مع علمه بطبيعة تكوينهم الذي يتنازعه الخير والشر جعلت المغفرة قريبة ، ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:"والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم"{[575]} وشرط الاستغفار المجاب ألا يصر المذنب على ذنبه ، ولذا قال تعالى:{ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي لم يصروا على الفعل الذي فعلوه بأن تكون عندهم النية إلى العودة إليه ، وقد فعلوه وهم يعلمون امر الله تعالى فيه ونهيه ، ولذلك قال العلماء( لا توبة مع الإصرار ) وإن الاستغفار مع الإصرار ذنب في ذاته وقد قال الحسن البصري( استغفارنا يحتاج إلى استغفار ) وإن من الإصرار على الذنوب ان يعلن التوبة ، وللناس عنده مظالم لا يردها ، فحقوق العباد لا تقبل التوبة فيها غلا بعد ردها إلى أصحابها ، وإن التائب المعترف بذنبه المستكبر له التائب عنه مقرب إلى ربه حتى عن الصوفية يقولون( إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا ) .