{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين159 إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون160}
بين سبحانه حال المؤمنين قبيل المعركة في غزوة احد ، وبعدها ، وفي أثنائها وما أصابهم من غم ، ثم بين سبحانه دواء أسقامهم ، ودعاهم إلى استئناف الجهاد ، وإن يكونوا قد مسهم قرح ، فقد مس القوم قرح مثله ، وقد بين سبحانه أسباب الهزيمة ليتوقوها ، فإن الغلط الذي يعلم الصواب خير ، وليس بشر ، ولقد بين بعد ذلك سبحانه حال النبي صلى الله عليه وسلم في القيادة الحكيمة ، وما اتبعه وما تحلى به ، وأمره سبحانه وتعالى بالاستمرار عليها ، فبين سبحانه ان القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة ، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة ، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب ، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة ،
ولذا قال تعالى في حال النبي صلى الله عليه وسلم ، وما انبعث منه في موقفه يوم احد ، فقال تعالت كلماته:{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} .
"الباء"هنا باء السببية ، و"ما"زائدة في الإعراب ، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة ، والمعنى:بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لينا معهم في كل أحوالك ، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها ، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك ، فما لمتهم ، ولا عنفتهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم أستغرقهم ، وحزن استولى عليهم ، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين ؛ إذ لم يؤاخذهم ، ولم يفرط في القول معهم ؛ لأن اللوم على الماضي ييئس النفس من غير جدوى ، وهو رجعة إلى الوراء ، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام ، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل امامه ، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه ، وبمقدار ما يحفز همة من معه ، ويشحذ عزيمتهم ، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس ، وفي اليأس الهزيمة ، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم ، ولا نجاح لمن في هم دائم ، وحزن واصب ، فكان لين النبي صلى الله عليه وسلم معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم ، والقائد الماهر الحكيم يجب ان يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البشر ولين العريكة ، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ ، حتى لا يعنتهم ولا يبهظهم{[597]} ، وحسبهم ما أصابهم ، وغن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمع ، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله:{ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} .
وهذا النص الكريم يثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا ؛ لأن( لو ) تدل على نفي الجواب لنفي الشرط ، والمعنى انك لست فظا ولا غليظ القلب ، وهذا هو الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة على أمثل الطرق الجامعة للقلوب ، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . والفظاظة خشونة المظهر ، والعشرة السيئة ، وسوء القول ، وتجهم الوجه ؛ وغلظ القلب قسوته ، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن ، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة ، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شانه ان ينفر ، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه:{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم128}[ التوبة] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم باشا لطيف المعشر متسامحا رحيما لا يقسو ولا يتعنت أحدا ولا يغضب ولا يسب ، وما ضرب أحدا بيده قط ، وكان سهلا في معاملاته متسامحا ، وكان طلق الوجه دائما ، رآه أعرابي ، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له:أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب ؟ والله ما هذا الوجه بوجه كذاب ! . وأسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم .
ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى اله عليه وسلم ، فقال( إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي السيئة بمثلها ، ولكن يعفو ويصفح ){[598]} . وكان عليه الصلاة والسلام لا يثير غيظه شيء ، ويداري الناس إلا ان يكون في المداراة حق مضيع ، ولقد روت عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض"{[599]} .
وإذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع ، ولذلك امر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة ، وهو العفو فقال:{ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} .
الفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي انه يترتب على اتصافك بالعفو والرحمة والبشاشة ، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب ان تكون عفوا ، ولذا امره سبحانه بالعفو عن المخالفة التي وقعوا فيها ، وترتب عليها ما ترتب من هزيمة وفوات فرصة ، وإن العفو في هذه الحال ليس للرحمة فقط ، بل هو للمصلحة أيضا ؛ لأنه يشحذ العزائم ، إذ هو يقيل من العثرة ،و ويرفع من الكبوة ، وعندئذ تستقيم القلوب نحو الحق ، كما قامت الأجسام بعد الوقوع .
وأمره سبحانه بأن يستغفر لهم ، بأن يطلب من الله ان يغفر لهم ما أساءوا ، وان يغفر هو لهم هذا الخطأ ، وغن في استغفاره الله تعالى لهم ، وإعلانه ذلك الاستغفار بينهم تأكيدا لعفوه ، وتشجيعا ، وضراعة إليه سبحانه ان يجعل حاضرهم وقابلهم خيرا من ماضيهم الذي أخطئوا فيه .
وقد امر نبيه بأمر ثالث ، وهو ان يشاورهم ، وإن المشاورة من بعد ما كان منهم دليل على عفو النبي صلى اله عليه وسلم بعد الله تعالى وغفرانه ؛ لأن مما اخطئوا فيه في الماضي ان النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في امر الخروج إلى لقاء المشركين في احد ، وانه كان يميل إلى البقاء حتى يدخلوا المدينة ، وشبابهم كان يريد الخروج ، فنزل عليه الصلاة والسلام عند رأيهم ، ثم كان ما كان منهم من ان طائفتين همتا بأن تفشلا ، ثم ما كان من خروج الرماة عن مواقفهم ، ولو بقوا في المدينة ما وقع هذا ، ولكن الله سبحانه مع ذلك امره بمشاورتهم للإعلان عن سماحته المطلقة ، ولأن المشاورة إن اخطات فيها النتيجة مرة ، فصوابها كثير .
والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام ، قد التزمها النبي صلى الله عليه وسلم في كل امر كان يمس أمور المسلمين العامة فقد استشار في غزوة بدر قبل وقوعها ، واستشار في الأسرى غب وقوعها ، واستشار في أحد ، واستشار في غزوة الأحزاب ، وكان من نتائج الشورى حفر الخندق والتحصن وراءه ، واستشار في القتال يوم الحديبية ، والتزم أبو بكر ومن بعده عمر الشورى ، وما اضطرب حبل الأمور من بعد إلا عندما منعت امر الشورى .
والأمر الذي وجه للنبي صلى الله عليه وسلم في الشورى قال بعضهم غنه امر إلزام ، وقال آخرون إنه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس امر إلزام ، بل طلب استحباب ، ولكن الأكثرين على انه امر إلزام ، بدليل التزام النبي صلى الله عليه وسلم للمشاورة في كل أمر يمس مصلحة المسلمين في السلم او في الحرب ، ولم يكن تبليغا لرسالة ربه ؛ وإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تعليم لنا .
ومن المتفق عليه ان الشورى لازمة بالنسبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال تعالى:{ وأمرهم شورى بينهم . . .38}[ الشورى] أي الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء ، والتعاون والإخلاص في القول ، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة ، قلنا:لمن ؟ قال:لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"{[600]} . والنصيحة لعامة المؤمنين هي بالشورى التي تبدى فيها الآراء لله وحده ، لا لشيء سواه ، ولا لطلب الجاه عند الناس . ولقد قال البخاري:"وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من اهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها"{[601]} .
ومع اتفاق الفقهاء على ان الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام لم نجد نصا قرآنيا وضع منهاجا لها ، ولم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وضح أسسها وطرائقها ، نعم إنه كان يستشير من معه من اهل المدينة ، وكذلك كان يفعل الشيخان ابو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلماذا لم يبين ذلك في كتاب ولا سنة ؟ والجواب عن ذلك ان مناهج الشورى تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأحوال ، وباختلاف الموضوعات ولا يوجد نظام ضابط لكل ذلك ، بل ترك سن النظام للناس ، ولا بد ان يتحقق معنى الشورى في النظام على ان يكون اهل الشورى من ذوي العلم والخبرة ، ففي أمور الحروب يستشار اهل الحرب ، وفي أمور القانون يستشار الفقهاء والمشرعون ، وفي أمور العمران يستشار اهل الهندسة ، ولذلك تتألف اللجان في المجالس النيابية من اهل الخبرة في كل امر من أمور العامة .
وفي الجملة فإن الشورى مطلب كالعدل ، يجب تحققه من اقرب الوسائل إليه توصيلا ، ولقد جاء في تفسير القرظي ما نصه:
"والشورى بركة ، وقال عليه الصلاة والسلام:"ما ندم من استشار ، ولا خاب من استخار"{[602]} وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما شقى قط عبد بمشورة ، وما سعد باستغناء رأي"{[603]} .
وإنه يجب ان نعلم حقيقتين ثابتتين:
أولاهما:ان الشورى إحساس نفسي من الحاكم يدفعه على طلب امثل الطرق للحكم وتحقيق العدالة والمصلحة ، فإن لم يكن في الحاكم ذلك الخلق ، فإنه لا ينتفع بأي نظام للشورى مهما يكن ، وإذا لم يكن المستشار يحس بأن إبداء القول في الشورى واجب عليه وليس مجرد حق له فإنه لا يمكن ان يكون من رجال الشورى .
ثانيهما:انه لا يعادى الشورى من الحكام إلا احد اثنين إما رجل قد أصابه داء الغرور ، فظن ان قوله الحق الذي لا يخالطه باطل ، وغما رجل يخاف من اطلاع الناس حتى لا يظهر شيء من أموره .
والمشاورة لها وقت معلوم ، وهو وقت الدراسة والفحص ، فإذا تمت المشاورة وجب الأخذ بالعزيمة في الأمر والإقدام على العمل ؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بالشورى:{ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} .
العزيمة عقد النية على إتمام المر بعد الاستشارة ، والنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لتحقق العزم سبق الاستشارة فاعتبر الشورى ركنا من أركان العزم ، فقد سئل صلى اله عليه وسلم عن العزم ، فقال:"مشاورة اهل الرأي ثم أتباعهم"{[604]} . وفي النص القرآني الكريم ، والحديث النبوي الشريف إشارة إلى انه بعد تعرف كل وجوه الرأي يكون الاعتزام ثم يكون العمل ، ولا يصح ان تكون مشاورة أخرى بعد الدراسة العميقة السابقة إلا إذا جد امر لم يكن في الحسبان ولم يكن في تقدير الذين استشيروا اولا فإنه يعاد النظر إليهم ، وفي غير هذه الصورة تكون العودة إلى الاستشارة ترددا يدعو إلى الهزيمة والاضطراب ، ولا يصح ان يكون التعصب لرأي إذا لم يؤخذ به باعثا على إعادة النظر ، فإن ذلك استبداد من أصحاب هذا الرأي ، وفوضى في الشورى ؛ لأن ما يعتزم من آراء بعد الشورى هو رأي الجميع ، ويجب ان يفنى معه كل رأي معارض وغن النبي صلى الله عليه وسلم مع انه في غزوة احد كان يرى البقاء في المدينة حتى يجئ إليها المشركون فيضيعوا في طرقها وأزقتها ، وتكون الدور حصونا يرمون منها ولكن الكثرة رأت غيره ، فنزل على رأيها ، وأمضى الأمر ، ولما وجدت حركة تدعو إلى رأيه وتكونت له كثرة ، قال الرسول الحازم الرشيد:"لا ينبغي لنبي يلبس لأمته ان يضعها ، حتى يحكم الله"{[605]} واللأمة:الدرع أو السلاح .
ولقد امر سبحانه وتعالى بالتوكل بعد المشاورة واخذ الأهبة ، وان يكون التوكل مصاحبا للعزيمة والإقدام على العمل ، وإن ذلك يستفاد منه ان التوكل على الله تعالى حق التوكل لا بد ان يقترن بالعمل ، وان يسبقه دراسة للموضع من كل نواحيه ، وغن التوكل بعد ذلك امر لا بد منه ؛ لأن العلم بالحق الأمثل من المناهج والعمال عند علام الغيوب ، فمهما يكن علم الإنسان فهو ناقص ، فالتوكل عليه سبحانه فيه معنى الشعور بالنقص الإنساني مهما يظهر كماله ، ولأن الله تعالى خالق الأسباب والمسببات ، وهو القادر على تغييرها ، او جعل الأمور على غير ما توجبه أسبابها ، فالتوكل عليه ضراعة وإحساس بالكمال المطلق لله تعالى وقدرته الشاملة الكاملة على كل مل خلق ، وإن عدم التفويض مع العمل غرور من الإنسان ، واستعلاء بغير سبب ، وغنه مهما يدبر الإنسان فقد يخطئه التنفيذ كما كان في غزوة احد .
ويجب ان نقرر هنا حقيقتين:"إحداهما"ان قدرة الله تعالى واضحة في نتائج الأفعال ، فعليه المعتمد .ألم تر إلى رجلين يبذران بذرا ، ويلقيانه في قطع متجاورات من الأرض ، ويأتي الله لأحدهما بأبرك الثمرات ، والآخر تأكل الآفات زرعه وكلاهما احتاط واخذ بالأسباب ."والثانية"ان الاتكال على الله تعالى ذكر لله ، فتطمئن القلوب ويذهب الخوف والجزع ويكون الإقدام .
ولهذه المعاني النفيسة العالية في التوكل الحق صرح بحب المتوكلين المولى العلي القدير فقال تعالت كلماته:{ إن الله يحب المتوكلين} وأي منزلة أعلى في الوجود من هذه المحبة التي تتضمن الرضا ، ورضوان الله اكبر من كل شيء ، فكيف تكون محبته ، والمتوكل على الله حق توكله قد تسامى بنفسه عن اعلاق الأرض ، ودرج بنفسه في مدراج الروحانية ؛ لأنه اعتبر إرادته وعزيمته وتدبيره وعمله ليست بشيء بجوار قدرة الله .