يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته ، المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه:( فبما رحمة من الله لنت لهم ) أي:أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم .
قال قتادة:( فبما رحمة من الله لنت لهم ) يقول:فبرحمة من الله لنت لهم . و "ما "صلة ، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله:( فبما نقضهم ميثاقهم ) [ النساء:155 ، المائدة:13] وبالنكرة كقوله:( عما قليل ) [ المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال:( فبما رحمة من الله لنت لهم ) أي:برحمة من الله .
وقال الحسن البصري:هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به .
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ التوبة:128] .
وقال الإمام أحمد:حدثنا حيوة ، حدثنا بقية ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني أبو راشد الحبراني قال:أخد بيدي أبو أمامة الباهلي وقال:أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أبا أمامة ، إن من المؤمنين من يلين لي قلبه ". انفرد به أحمد .
ثم قال تعالى:( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) الفظ:الغليظ ، [ و] المراد به هاهنا غليظ الكلام ، لقوله بعد ذلك:( غليظ القلب ) أي:لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو:إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة:أنه ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح .
وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي ، حدثنا عمار بن عبد الرحمن ، عن المسعودي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض "حديث غريب .
ولهذا قال تعالى:( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث ، تطييبا لقلوبهم ، ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم [ كما] شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا:يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول:اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [ شمالك] مقاتلون .
وشاورهم - أيضا - أين يكون المنزل ؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعنق ليموت ، بالتقدم إلى أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم .
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى عليه ذلك السعدان:سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فترك ذلك .
وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصديق:إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال .
وقال عليه السلام في قصة الإفك:"أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم ، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء ، وأبنوهم بمن - والله - ما علمت عليه إلا خيرا ". واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة ، رضي الله عنها .
فكان [ صلى الله عليه وسلم] يشاورهم في الحروب ونحوها . وقد اختلف الفقهاء:هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين .
وقد قال الحاكم في مستدركه:حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر ، حدثنا سعيد بن [ أبي] مريم ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله:( وشاورهم في الأمر ) قال:أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما . ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وهكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال:نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبوي المسلمين .
وقد روى الإمام أحمد:حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر:"لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما ".
وروى ابن مردويه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم ؟ قال "مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ".
وقد قال ابن ماجه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير عن شيبان عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المستشار مؤتمن ".
ورواه أبو داود والترمذي ، وحسنه [ و] النسائي ، من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط منه .
ثم قال ابن ماجه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن أبي مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المستشار مؤتمن ". تفرد به .
[ وقال أيضا] وحدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه . تفرد به أيضا .
وقوله:( فإذا عزمت فتوكل على الله ) أي:إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه ( إن الله يحب المتوكلين )