وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خولفت أوامره في غزوة احد ، فنزل بالمؤمنين فيها ما نزل ، ولقد ناسب ان يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين نعمته عليهم في إرسال الرسول الأمين ، ويشير إلى الهداية التي اشتملت عليها رسالته ، وان إتباعه إتباع رضوان الله ، ومخالفته إتباع لسخط الله ، فقال سبحانه:
{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم} لقد من الله تعالى ، ونعمه على المؤمنين كثيرة ، باختيار رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، والله اعلم حيث يجعل رسالته ، فلقد كان حكيما أمينا فيهم من قبل الرسالة ، وكان رفيقا بهم لا يعنتهم بعد الرسالة ، لن لهم ، ولم يكن فظا غليظا بهم ، وفي هذا النص السامي يبين ان ذات رسالته نعمة ، فقال:{ لقد من} ، انعم وأعطى ووهب ، وأكد عظيم المنة والعطاء باللام ، ولقد كانت منته في بعث الرسول من انفسهم ، ومعنى{ من انفسهم} يصح تخريجها تخريجين:
الأول:ان يكون من نفس العرب ، ومن قومهم ، ويكون كلمة المؤمنين خاصة بمؤمني العرب .
والثاني:ان يكون من انفسهم ، أي انه بشر مثل سائر البشر آتاه الحكم والنبوة ، وكان رسول رب العالمين ليرسم لهم طريق الهداية ويكون لهم أسوة حسنة ؛ إذ لا يمكن أن يكون أسوة حسنة لهم إلا إذا كان من جنسهم ، وكان بشرا مثلهم ، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون ، وما يأتيه من خير يكون جنسه في طاقة البشر ، وإن كان مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيه أعلى وأزكى وأوفر خيرا ، وقد بين سبحانه وجه النعم في هذا البعث المحمدي فقال:
{ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} التلاوة القراءة المتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض ، أي يعقبه في نظام محكم دقيق ، والتلاوة في أكثر أحوالها لا تكون إلا في آيات مقروءة ، والآيات تطلق على الآيات الكونية باعتبارها أمارة وشاهدا على قدرة الله تعالى ووحدانيته ، وتطلق على الآيات المتلوة باعتبار ان كل آية من كتاب الله تعالى دليل على انه من عند الله ، وظاهر السياق ان الآيات التي تتلى هنا هي الآيات القرآنية ، والمعنى في ذلك ان الله سبحانه يلقى على نبيه القرآن الكريم فيتلوه عليهم متحديا العرب أن يأتوا بمثله ، وقيل:إن المراد بالآيات . . الكونية ، ومعنى تلاوتها تلاوة القرآن المشتمل على أنبائها ، وعلى توجيه الأنظار إليها ، وإن الظاهر هو الأول ، ولا يخلو الرأي الثاني من تكلف ، وإنه من أعظم منن الله ان يخاطب المؤمنون بكتاب يتلى عليهم من السماء ، وان يوجه إليهم الخطاب مباشرة من الله تعالى .
والتزكية هي العمل الثاني من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تطهير نفوس المؤمنين من أدران الجاهلية ، وتنميتهم وتقويتهم ، فالرسالة المحمدية كان آثارها في المؤمنين تتجه إلى ثلاث نواح:تهذيب نفوسهم آحادا ، والربط بين قلوبهم جماعات ، والعمل على رفع شأنهم والتمكين لهم في الأرض بأسباب القوة ، كما قال تعالى:{ ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين5} [ القصص] . والكلمة"{ ويزكيهم} تشتمل على كل هذه المعاني التي ترفع من شان اهل الإيمان .
وتعليم الكتاب هو تعليمهم ما اشتمل عليه من أحكامه ببيان ما عساه يكون فيه من نصوص تعلو على مداركهم ، وتفصيل المجمل فيه ، وتطبيقه عليهم ، فتعليم علم الكتاب غير تلاوته قراءته مرتلا مفهوما ، وتعليمه بيان أحكامه ، فقد امر بالصلاة ، والنبي صلى اله عليه وسلم علمها ، وأمر بالحج ، والنبي صلى الله عليه وسلم علمه ، وهكذا ، وقيل:عن تعليم الكتاب هو تعليم المؤمنين الكتابة ونقلهم من الأمية إلى العلم ، فتعليم العلم في ذاته غاية من غايات الإسلام ، ولذا كانت أولى آيات القرآن:{ اقرأ باسم ربك الذي خلق1 خلق الإنسان من علق2 اقرأ وربك الأكرم3 الذي علم بالقلم4 علم الإنسان ما لم يعلم5} [ العلق] .
وتعليم الحكمة ، فسره الشافعي بأنه تعليم السنن العملية ، ويصح ان تفسر الحكمة بما هو اعم من ذلك واشمل ، فتشمل العلم بأسرار الكون ، وأسرار النفوس ، والسلوك القويم الذي يسدد الخطى في الدنيا ، ويرضى الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة .
{ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي إن حال الناس ، وخصوصا العرب ، انهم كانوا من قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال واضح بين ، تنفر منه العقول المستقيمة وتأباه الأذواق السليمة ، ألم يكن العرب في عمياء من أمورهم متنابذين متدابرين يئدون بناتهم ؟ والم تكن فارس في اضطراب ونزاع وانحلال ؟ وألم يكن الرومان ومن أخضعوهم في طغيان واضطراب عقائد ؟ كل ذلك كان وقت ان بزغ فجر الإسلام ، اللهم أتم علينا نعمة الهداية والتوفيق .