{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم انى هذا قل هو من عند أنفسكم عن الله على كل شيء قدير165 وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين 166 وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله اعلم بما يكتمون167 الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت عن كنتم صادقين168}
الكلام إلى الآن موصول في غزوة احد وأعقابها ، وفي هذه الآيات يبين سبحانه انه ما كان يليق بالمترددين الذين أصاب اليأس قلوبهم ، ان يعجبوا لماذا كانت الهزيمة ، وإنه لا يصح ان تأخذهم روح الانهزام إلى هذا الحد ؛ لأنهم إذا كانوا قد أصيبوا في هذه الواقعة بقتلى فقد أصيب أعداؤهم بضعف ما أصيبوا ، ولأنه لا عجب في ان يهزموا لأنهم خالفوا قائدهم ، والله سبحانه وتعالى قدر لهم تلك الهزيمة لكي يعتبروا ، ويحسنوا التدبير ، ويحسنوا الطاعة ، ويحترموا حق القيادة الحكيمة الرشيدة ، ولكي يتخذوا من الهزيمة علاجا للأخطاء التي سببتها وتوقيا في المستقبل لها ، ولكي يبث في نفوس اهل الإيمان ان الحرب ليست نصرا مستمرا ، ولكن العاقبة في النهاية لهل الحق والعدل والرشاد ، وهناك فائدة للهزيمة انها تبين الصادق الإيمان من المنافق الذي لا يؤمن بشيء ففي المحنة يتميز الخبيث من الطيب ، وإذا كان النصر في بدر قد فتح باب النفاق ، فدخل في الإسلام من لم يؤمنوا به ، وأعلنوا الاعتقاد من يبطنون خلافه ، ويخفون ما لا يبدون ، فإن الهزيمة في احد قد كشفت النفاق والمنافقين ، بل عن غزوة احد من اول أمرها قد كشفت النفاق ، فقد اخذ المنافقون يثبطون ، حتى همت طائفتان ان تفشلا والله وليهما ، فلما كانت النتيجة أخذوا يبثون الأوهام الفاسدة ، ليضعضعوا عزائم المؤمنين ، ويشككوا ضعفاءهم في اعتمادهم على الله ، فغزوة احد قد كشفت النفاق في أولها وفي آخرها ، وحسبها ذلك فائدة .
{ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم انى هذا} المصيبة أصلها في اللغة الرمية التي تصيب الهدف ، ولا تخطئه ، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل ، ولا تكاد تستعمل في القران في معنى الخير ، وأما الفعل"أصاب"فيستعمل في الخير والشر ، ومن ذلك قوله تعالى:{ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . .79 ؛[ النساء] وقوله تعالى:{ إن تصبك حسنة تسؤهم . . .50}[ التوبة] والمثل هو المساوي ، والمثلان هما ضعف المساوي ، والمعنى:أولما أصابتكم مصيبة قد أنزلتم بالأعداء ضعفها أصابكم الشك والتردد وقلتم انى هذا ؟ . وقد أصابوا من المشركين ضعف ما أصاب المشركون منهم ، فقد قتلوا منهم مقتلة في بدر ، قتلوا نحو سبعين ، وأسروا مثلهم ، وقتلوا منهم مقتلة في أول الحرب في أحد ، والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ ، وموضع التوبيخ هو قولهم:"انى هذا"؛ لأن ذلك يدل على التردد والشك او تسربه إلى قلوبهم ، ومعنى"انى هذا":من أين هذا ، أي من أين جاءت هذه الهزيمة ، وهذا لا يقوله إلا ضعاف الإيمان ؛ لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطأهم ، ويعرفون تقصيرهم ، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم ، فكأن حل النسق البياني الرائع هو هكذا:أقلتم من أين هذه الهزيمة لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها ، بالمقتلة العظيمة فيهم في بدر ، والمقتلة العظيمة في اول الغزوة في احد ، ويصح ان يقال:إن الذين قالوا من أقوياء الإيمان ؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه ، ويخشون ان يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم ، وقد امر الله تعالى ان يجيبهم ، ويزيل تعجبهم ، فقال:{ قل هو من عند أنفسكم} .
أي ان سبب المصيبة منكم انتم ، وقد أكد انه منهم بإبراز الضمير في الإجابة{[612]} ، وبالإتيان بالظرف وهو عند ، وبالتعبير ب"أنفسكم"التي تدل على التوكيد ، وكان سبب الهزيمة منهم لنهم لم ينتظروا في المدينة حتى يجئ إليهم الأعداء ويقضوا عليهم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة نزولا على حكم الشورى ، وعلى رأيهم ، فعليهم ان يتحملوا تبعته ، وهم فوق ذلك هموا بأن يفشلوا ، ولأنهم عندما رتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه ترتيبا حكيما ، وأخذ المقاتلون ينفذون الخطة بإحكام ، والرماة يحمون ظهورهم ، حتى اخذوا يحسونهم بإذنه ، وقتلوا من المشركين مقتلة عظيمة ، وفروا أمامهم ، ترك الرماة أماكنهم ، فكان الاضطراب في جيش الحق ، وفوق ذلك فإن الشك قد أصاب القلوب الواهنة ، حتى أخذ يضرب بعضهم رقاب بعض ، وضعف صوت الهادي الرشيد ، وانطلق المنافقون يعلنون قتل النبي صلى اله عليه وسلم ، فبسبب ذلك كله كانت الهزيمة .
بيد ان هذه الهزيمة كانت إرادة الله سبحانه وتعالى ليمحص المؤمنين ، وليبين لهم بالعمل ان طاعة القائد الرشيد سبب النصر ، وان قدرة الله تعالى فوق كل شيء ، فهو قادر على كل شيء ، كان يستطيع ان ينصركم في هذا المضطرب ، وقد فعل فإنه صرف المشركين عن ان يعودوا إلى المدينة وقد أثخنتكم الجراح وأثقلكم الاضطراب ، ولكن الله خوفهم فرضوا من الغنيمة بالإياب ، ولذا قال سبحانه مؤكدا قدرته:
{ إن الله على كل شيء قدير} وهذا رد على ضعفاء الإيمان الذين يقولون كيف ننهزم والله معنا ، فبين سبحانه ان قدرته فوق كل شيء ، وانه سبحانه أراد لكم تلك النتيجة وحماكم من ان تؤثر في مجرى تاريخكم فصرفكم ذلك الصرف ، حتى كأنهم المهزومون وانتم المنصورون ، وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ "إن"، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن ، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير .