{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} .
بعد تبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلول وبيان ما بعث لأجله عاد الكلام إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة في واقعة أحد والرد على المنافقين بيان ضلالهم في أقوالهم وأفعالهم .قال تعالى:( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ) قال المفسرون:إن الاستفهام الأول للتقريع و"لما "بمعنى"حين "المصيبة ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم وقد تقدم بيانه .والمشهور أن معنى إصابتهم مثليها هو كونهم قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين والمشركون لم يقتلوا منهم يوم أحد غير سبعين رجلا .فجعل الأسرى في حكم القتلى للتمكن من قتلهم ، وقال بعضهم إن المراد بالمصيبة الهزيمة وبالمثلين هزيمة المؤمنين للمشركين يوم بدر وهزيمتهم إياهم يوم أحد .ويحتمل أن يكون ما نالوه يوم أحد من المشركين في أول الأمر هو مثلي ما ناله المشركون منهم في ذلك اليوم بعد ترك الرماة مركزهم وإخلائهم ظهور المسلمين لخيل المشركين راجع:( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) [ آل عمران:152] .
وأما قولهم:أنى هذا ؟ فهو تعجب منهم ، أي من أين جاءنا هذا المصاب .قال الأستاذ الإمام ، الكلام لتعجبهم وبيان لمنة الله تعالى عليهم حتى في واقعة أحد فإن خذلانهم فيها لم يبلغ مبلغ ظفرهم في بدر ، بل كان نصرهم هناك ضعفي انتصار المشركين هنا كأنه يقول:لماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه ؟ وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد وتسألون عن سببه ومصدره ! وقال المفسرون:إن سبب تعجبهم مما أصابهم هو اعتقادهم أنهم لا بد أن ينتصروا وهم مسلمون يقاتلون في سبيل الله وفيهم رسوله .وقد تقدم كشف هذه الشبهة في تفسير الآيات السابقة .وقد ذكر هنا تعجبهم ليبني عليه هذا الجواب وما فيه من الحكم لأولي الألباب ، وهو:
( قل هو من عند أنفسكم ) فإنكم أخطأتم الرأي بخروجكم من المدينة إلى أحد وكان الرأي ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من البقاء فيها ، حتى إذا ما دخلها المشركون عليهم قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل ، وروي هذا عن الربيع ، ثم إنكم فشلتم وتنازعتهم في الأمر وعصيتهم الرسول طمعا في الغنيمة ففارق الرماة منكم موقعهم الذي أقامهم فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكر عليكم من ورائكم .هذا المتبادر المشهور والمعقول المعنى الموافق لقاعدة كون العقوبات آثارا لازمة للأعمال وروي عن عكرمة ويروى عن الحسن أن ما حصل يوم أحد من المصيبة كان عقابا على أخذ الفداء عن أسرى بدر الذي عاتب الله عليه نبيه بقوله:( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) [ الأنفال:67] الخ ، وقووه بما رواه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك ان تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وإما أن يأخذوا منهم الفداء على أن يقتل منهم عدتهم .فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم ، نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره .فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر .وأقول:ما أرى أن هذا يصح عن علي رضي الله عنه فإنه بعيد عن المعقول .وكيف يصح والمأثور ان أخذ الفداء كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم ورأي أبي بكر رضي الله عنه وحاشا لهما ان يرضيا بأخذ مال يعاقبون عليه بقتل سبعين مؤمنا ! ! وقد تقدم لنا بحث كون العقوبات آثارا طبيعية للأعمال فليرجع إليه من شاء .
( إن الله على كل شيء قدير ) لا يعجزه تنفيذ سننه بعقاب المسيء وإثابة المحسن وإقامة النظام العام في الكائنات ، يربط الأسباب بالمسببات ، فلا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر ، ولا بر ولا فاجر ، قال الأستاذ الإمام بناء على كون وجه تعجبهم هو وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم:أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفع أمة خالفت السنن والطبائع فلا تغتروا بوجودكم معه ، مع المخالفة لله وله ، فهو لا يحميكم مما تقتضيه سنن الله فيكم .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى:( أو لما ) فيه وجهان أحدهما أن همزة الاستفهام قدمت على الواو لأن لها الصدارة والواو عاطفة للجملة الاستفهامية .وثانيهما أن الواو عاطفة لما بعدها على محذوف قبلها هو الجملة الاستفهامية والتقدير:أأخطأتم الرأي في الخروج إلى أحد وفعلتم ما فعلتم من الفشل والعصيان ولم تبالوا بذلك وتفكروا في عاقبته ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا تعجبا منه واستغرابا ؟ وقدر بعضهم غير ذلك .