ومن أفضل نعم الله انه ثبت قلوب المؤمنين ، فلم يفزعوا عندما دست الأخبار لإفزاعهم وترويعه ، فلم يرعوا لأن الله حاميهم وهم اعتمدوا عليه وهو وليهم ؛ والترويع من الأوهام إنما يكون لأولياء الشيطان ، ولذلك قال سبحانه موازنا بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشيطان:
{ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون} الخطاب في الآية للمؤمنين الأقوياء أي إن الإرهاب والإفزاع يكون من أولياء الشيطان{[628]} ، وهو يخوف أولياءه ونصراءه بهذا التخويف وذلك الإفزاع ، لأن أولئك لا يهمهم إلا الحياة الدنيا ، ودائرة سلطان الشيطان في ان يحملهم على ألا يؤمنوا بالحياة الأخرى ، ومادامت الدنيا همهم اللازم ، فإنه لا يهمهم إلا الفوز الحاضر ، ومن هنا يجد الشيطان موضع ثقته ووسوسته ، فأولياء الشيطان إذا كانوا قد خوفوا المؤمنين بالكثرة والعدد والهزيمة القريبة ، فذلك هو منطقهم ومنطق الشيطان ، اما المؤمنون فهم أولياء الله ولا يعتمدون إلا عليه ، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر العاجل ومعه الجزاء ، وإما الاستشهاد والثواب المقيم ، ورضوان الله اكبر ، وهو ثابت في الحالين ، ولذلك لا يفزعهم مثل هذا التهديد الذي حملته رسل أبي سفيان ، ويكون المعنى على هذا ، إن تخويف الشيطان المبني على الإفزاع والإرهاب إنما يكون أثره في أوليائه من الكافرين والمنافقين ، ولا يمكن ان يكون له أثر في قلوب المؤمنين ،والإشارة في قوله تعالى:{ إنما ذلكم} هي للعمل الذي قام به أولئك الذين دسوا القول المفزع المثبط في النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، وجعل المسند إليه من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب ، فالمعنى:إنما ذلكم القول المدسوس هو الشيطان أي عمله وتدبيره ، ولا يمكن ان يكون إلا في أوليائه ، والله ولى الذين آمنوا ، والشيطان على هذا هو إبليس اللعين الذي أضلهم ويخوفهم ، هم ومن هم على شاكلتهم من المنافقين .
ولقد أكد الله سبحانه ولايته لهم ، ونصرته لهم فقال تبارك وتعالى:{ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} أي فلا تخافوا تهديدهم الذي هو تدبير الشيطان ، فإنه إذا كنتم أولياء الله ، ولا يهمكم إلا رضاه ، ولستم أولياء الشيطان ، ولا أثر له في قلوبكم ، فلا يصح لكم ان تخافوا أولياء الشيطان ، ولا تدبيره ، والله معكم ، ولذلك لا تخافوا سواه ما دام الإيمان شأنكم ووصفكم ، فضعوا في نفوسكم ولاية الله ونصرته وتقواه ، وضعوا أيضا في نفوسكم خشية عقابه ورجاء رضاه ، فإن فعلتم خفتم الله وأرضيتموه ، واتبعتم طريق السداد ، وكنم في امن من الشيطان وأوليائه .
والخوف امر نفسي لا قدرة للإنسان على منعه ، فكيف يكون النهي عنه ؟ والجواب عن ذلك ان النهي عن الخوف نهى عن أسبابه ، ودعوة إلى رياضة النفس على الصبر ؛ وذلك لن سبب الخوف والجبن حب الدنيا وكراهية الموت ، وعدم عمران القلب بذكر الله وعدم الإحساس بولاية الله تعالى ، وضعف الثقة بالنفس وبالله ، فالله سبحانه وتعالى إذ نهى المؤمنين عن الخوف من الشيطان فمعناه النهي عن أسباب الخوف والأخذ في أسباب القوة ، بالتقوى وذكر الله تعالى ، والاتكال عليه بعد الأخذ في الأسباب ، والإيمان بأن الله تعالى ناصر دينه ، وناصر من استمسك به واخذ بعروته ولم يتركها قط .
والمقابلة بين النهي عن الخوف من أولياء الشيطان ، والأمر بالخوف منه سبحانه ، فيها بيان علاج النفس إذا ضعفت وخافت من الشيطان وأوليائه ، فدفع الخوفمن أولياء الشيطان يكون بالخوف من الله تعالى ، فمن خاف الله تعالى حق الخوف منه لا يخاف أحدا من العباد إذا عاندوا وحادوا الله ودينه ، لا يخاف اهل الضلال من يخاف الله سبحانه وتعالى{[629]} .