/ت172
[ إنَّما ذلكم الشَّيطانُ يُخوِّفُ أولياءه] فليس الخوف الذي يحدث للإنسان إلاَّ من خلال تسويلات الشَّيطان الذي يوحي له بالمشاعر السلبيّة ،التي تُعطي الأشياء من حوله صورة غير واقعيّة ،فتضخّم في وعيه القضايا الصغيرة ،وتصغّر القضايا الكبيرة ،وتضع أمامه صورة الموت الذي يُلغي أطماعه وشهواته ؛فيضعف أمام ذلك كلّه ،ويتضاءل ويصغر ويتراجع عن مواقفه ،وينسحب من مواقع الجهاد الصعب تحت تأثير عامل الخوف الناتج من ذلك كلّه ...وذلك هو شأن أولياء الشَّيطان ،يصغون بمسامع قلوبهم لوسوسته .أمّا أولياء اللّه فهم الذين لا يرتبطون بالحياة إلاَّ من خلال الإيمان باللّه الذي يمسك مقاليدها بيده ،ويحرّكها بقدرته ،ويضع خططها بحكمته ،فهو الذي ينفع ويضر ،وهو الذي يحيي ويميت وإليه المصير ...وليست الحياة الدُّنيا نهاية المطاف ،ليسقطوا أمام صورة النهاية في صورة الموت ،بل هي بداية لحياة جديدة أخرى .
ولهذا فإنَّ الموت لا يمثِّل حالة سلبيّة في عمق الشعور الإنساني المطيع للّه ،بل يحدث له حالة عكسيّة من الشعور الإيجابي بالشوق للقاء اللّه للحصول على رضوانه ونعيمه في الدار الآخرة .وهذا هو شعار المؤمنين في المعركة في ما حدّثنا اللّه عنه في قوله تعالى: [ قل هل تربَّصُونَ بنا إلاَّ إحدى الحسنيين] ( التوبة:52 ) ؛النصر أو الشهادة .[ فلا تخافوهم] لأنَّهم لا يملكون القوّة الذاتية التي تخيف المؤمنين ،[ وخافونِ إن كنتم مؤمنين] بالوقوف أمام حدود اللّه في الثبات على خطّ الجهاد وعدم الانهزام أمام تحدّيات الأعداء ،فإنَّ الإيمان موقف لحساب اللّه ،وليس كلمةً عابرةً تنطلق به الشفاه في حالة شعورية سلبيّة في حركة الذات .
الجهاد حركة للحياة:
وقد نستوحي من هذه الآيات في أنَّها لم تتحدّث عن التاريخ الجهادي للمسلمين كتاريخ محدود يتحرّك ضمن شخصيات معيّنة ،بل تحدّثت عنه كنموذج من نماذج حركة الإسلام في الحياة في حركة المؤمنين الذين يواجهون تحدّيات الأعداء بالقوّة ،فلا تصرعهم الهزيمة بل تزيدهم قوّةً واستعداداً للحصول على النصر من خلال اختزان دروس الهزيمة في داخلهم ،وتحويلها إلى تجربةٍ رائدة في خطّ السير ،ليُتابعوا الطريق ويستشعروا بالقوّة المتجدّدة بقدر ما يتجدّد الإيمان في نفوسهم .
وبذلك تتحوّل هذه القصة إلى درس نتعلّمه في مواقفنا عندما نقود معركتنا في صراعنا مع الكفر والظلم والاستعمار ،فيُحاول الأعداء أن يستغلوا الأوضاع الشاذة في مجتمعاتنا ليثيروا فينا مشاعر الخوف من خلالها .فإنَّ المؤمن ينظر بنور اللّه ،فيدرس الواقع ،لا على أساس حدوده الضيّقة ،بل على أساس المعطيات المستقبلية التي يمكن أن يقدّمها للمستقبل ،في ما يوحي به من عملية حشد القوّة في الداخل والخارج من خلال الارتباط باللّه ،فإنَّ الحياة بيد اللّه ،فلا يملك أحد أن يسلب الحياة ممن يريد اللّه له ذلك .وهذا هو سرّ القوّة النفسية التي يواجه بها المؤمن الحرب النفسية التي يشنها الأعداء ضدّه ،فيتزايد لديه الشعور بأنَّه يقف على أرض صلبة ،وأنَّ رأسه مرفوع إلى السَّماء في اتجاه النور المتحرّك في آفاق اللّه .
وتربية التوكّل على اللّه التي نشأ عليها هؤلاء المسلمون من الصحابة في صدر الدعوة ،هي السرّ في الثبات على الإسلام أمام كلّ التحدّيات الصعبة والأخطار الكبرى ،فقد فهموه فهماً واعياً عميقاً واسعاً ممتداً في حركة الواقع الإنساني ،وذلك بالأخذ بالأسباب التي أعدّها اللّه للأشياء في واقع الحياة في قضايا النصر والهزيمة مما يتصل بالأسباب الطبيعيّة ،وبالانفتاح على اللّه في استلهام القوّة منه في الإمداد الغيبي الذي يمدّ به عباده الصالحين في ساعات الشدّة ،وفي مواقع التحدّي عندما يخضعون لبعض نقاط الضعف النفسية في ضعف بشريتهم ،ووهن الإرادة واهتزاز الإحساس ،وسيطرة الخوف والحزن من خلال أسبابها في الواقع ،فينطلقون إلى اللّه يستمدون منه القوّة التي تنقذهم من ضعفهم ،والأمن الذي يخلّصهم من خوفهم ،والفرح الروحي الذي يُبعدهم عن حزنهم ؛فتمتلئ نفوسهم بالثقة أمام الأعداء .
فإذا كانوا يمثّلون القوّة الماديّة التي تغلب قوّة ماديّة مماثلة ،فإنَّ اللّه يملك القوّة الغيبية التي لا تغلب ولا تقهر ،وهكذا يتحوّل التوكل في معناه الإيماني إلى عنصر قوّة في الإنسان المؤمن ،بحيث تطرد عنه كلّ عوامل الضعف ،فينطلق إلى الحياة في كلّ قضاياها بثقةٍ فاعلةٍ ،واطمئنان عميق ،وموقف ثابت ،وهذا هو شأن القوّة الروحيّة الإيمانيّة في الواقع الحركي للإنسان في مواجهة الشدائد .