لا تحزن على الكافرين:
لقد كان الرَّسول ( ص ) يعيش في داخل نفسه الحزن العميق ،من خلال ما يواجهه من كفر الكفّار الذين لا يتوقفون أمام دعوة الإيمان ليتأمّلوا ويفكّروا ،ليؤمنوا من خلال ما تحمله الدعوة من براهين الحقّ ؛بل يُسارعون في الكفر والإنكار تحت تأثير رواسبهم وتقاليدهم وشهواتهم وعلاقاتهم الحميمة بآبائهم ...فقد كان( ص ) يعيش الإخلاص كلّه للّه ،ويريد للنَّاس أن يلتقوا باللّه في عمليّة إيمان وطاعة ،ليتعرّفوا عظمته من خلال خلقه ،ويتحرّكوا في طاعته شكراً لنعمته .
ولكنَّ اللّهسبحانهلا يريد للرَّسول أن يحزن ،بل يدعوه إلى أن يُقابل الموقف بشكلٍ طبيعي ،فقد أقام عليهم الحجّة من خلال ما طرحه عليهم من أساليب الدعوة وأفكارها ،مما لا يدع لهم مجالاً فكرياً للإنكار ،فليس هناك تقصير من جهته إذا كان حزنه خوفاً من التقصير ،وإذا كان ذلك خوفاً عليهم من الهلاك ،فهم قد اختاروا لأنفسهم ذلك .أمّا إذا كان انفعالاً روحيّاً لمعصيتهم للّه وكفرهم به ،فإنَّهم لن يضرّوا اللّه شيئاً ،لا بلحاظ ذاته ،لأنَّه الغني المطلق الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ،ولا تضرّه معصية من عصاه وكُفر من كفر به ،بل هو الذي يملك أمر عقابهم ،فمصيرهم خاضعٌ لما يريده لهمبسبب كفرهممن سوء العاقبة ،فليس لهم حظّ في الآخرة في يما يملكه المطيعون من نعيم اللّه ورضوانه ،]ولهم عذابٌ عظيمٌ[ مما أعدّه اللّه للكافرين .وتلك هي قصة هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسالة وتمرّدوا على الدعوة .
إرادة اللّه تتصل بإرادة الإنسان في مسؤوليّاته:
[ ولا يحزنك] يا محمَّد في مسيرتك الرسالية المنطلقة في اتجاه إخراج النَّاس من الكفر إلى الإيمان ،إذا رأيتفي الطريق[ الذين يُسارعون في الكفر] في مبادراتهم الفكرية والعملية ،وفي حركتهم الواقعية مما يحاولون فيه أن يحافظوا على قيم الكفر وامتيازاته ،ليعطلوا كلّ المبادرات الإيمانية التي تقوم بها بأساليبهم المتنوّعة ،ووسائلهم المختلفة ،فلا يثقل ذلك نفسك ولا يعطّل حركتك بالطريقة التي يثقل بها الحزن النفس الإنسانية ،فيمنعها عن الاستمرار في الخطّ ،ويعطّل حركتها في تنفيذ الخطّة ،باعتبار أنَّ العوامل النفسية السلبيّة تترك تأثيراتها على الإنسان في تفكيره وحركته ،فإنَّك إذا كنت تفكّر بالموضوع من خلال فضل مهمتك ،فإنَّك تعرف أنَّ مهمتك تنتهي عند إبلاغ الدعوة بالوسائل الحكيمة التي تفتح فيها قلوب النَّاس على الحقّ النازل من عند اللّه ،بحيث لا تترك أيّة فرصةٍ للهداية وأيّ أسلوب للإيمان إلا أتيت به ،فإذا بلغت البلاغ الحسن ،فقد حقّقت النجاح الرسالي في مرحلته الأولى .
[ إنَّهم لن يضرُّوا اللّه شيئاً] لأنَّك اخترقت كلّ الحواجز التي نصبوها أمام الدعوة .ويبقى الصراع بين الكفر والإيمان يفرض نفسه على الساحة لينتهي في نهاية المطاف ،بعد استكمال الشروط الموضوعية ،إلى النتائج الحاسمة .وإذا كنت تحزن لأجل اللّه لأنَّهم أساءوا إليه وظلموه حقّه وتجرّأوا على مقامه وتمرّدوا عليه ،فعليك أن لا تشعر بالمشكلة من هذه الجهة ،إذ [ يريد اللّه ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة] لأنَّ مسألة الكفر والإيمان لا تتصل باللّه في حاجته إلى ذلك ،فهو الغنيّ عن عباده في أصل وجودهم ،لأنَّه الذي خلقهم والقادر على إزالتهم بكلّ تفاصيل وجودهم ،فهو الذي أعطاهم عقولهم وحواسهم وأجسادهم وما يحتاجونه مما خلقه في الأرض وفي السَّماء ،مما يتوقف عليه وجودهم .أمّا معادلة الإيمان ،فهي مسألتهم التي بها يسعدون ويغتنون ويرتاحون ويفلحون ،وقد ترك اللّه لهم الحرية في ذلك ،فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ؛فإذا كانوا قد اختاروا الكفر وتركوا دعوة اللّه ،فإنَّ اللّه قد وكلهم إلى أنفسهم وأبعدهم عن رحمته ،ومنع عنهم لطفه ،وحكم عليهم بالضلال بعد اختيارهم له .وهذا هو الذي يؤدّي بالنتيجة إلى حرمانهم من كلّ حظّ في الآخرة من نعيم الجنّة ومواهب اللّه في العالم الآخر ،وهذا هو تفسير قوله تعالى: [ يريد اللّه ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة] فليست القضية قضية إرادة تكوينية تمنعهم من الحصول على فرصة السعادة في الآخرة فلا يملكون معها أيّة إمكانية لذلك ،بل قضية اختيار منهم بعد أن أعطاهم اللّه فرصة الوصول إلى إيمانه من أوسع الأبواب ،من خلال ما ركبه فيهم من الإرادة الحرّة التي يتحملون مسؤولية قراراتها ،ما يؤدّي إلى النتائج السلبيّة .فإنَّ إرادة اللّه للأشياء تتصل بإرادة الإنسان في مسؤولياته ،فإذا اختار الخير في حركة عمله أعطاه اللّه الخير في نتائجه ،وإذا اختار الشرّ فإنَّ اللّه يريد لهم عند ذلك من موقع إرادته ،أن لا يكون لهم حظّ في الآخرة [ ولهم عذابٌ عظيمٌ] .