{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم31 قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين32}
يؤمن المؤمن رغبة في الثواب ،ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب ،ويؤمن المؤمن إذعانا للحق ، ومحبة للرب ،وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى ،ومآتم هذه الدنيا ؛وتلك أعلى المراتب ،وأشرف المناصب ،وبها يعلو المؤمن .
وفي الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه ،فقال:{ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} وقال:{ ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد} فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب ،وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى:{ والله رءوف بالعباد} .
وفي هذه الآية يدعو إلى الطاعة لا خوف العقاب ولا رجاء الثواب ،ولكن لأن الطاعة تؤدى إلى أعلى منازل السائرين ،وهي المحبة:محبة الله لعبده ،ومحبة العبد لربه .
قال بعض السلف:ادعى قوم محبة الله ،فأنزل الله تعالى آية المحبة:
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ،وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي صلى الله عليه وسلم إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها ،ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى ؛إذ جعل إتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى .
وكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطب بذلك ويقرره ،وان الله تعالى يمضي ما يقرره ،علو بمقام الرسالة المحمدية ،وبمقام النبوة ؛لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه ،وأنها فوق كل محبة ؛فإذا كان من يتبعه يحبه ،فهو إذن في أعلى درجات المحبة ؛ولأن فيه بيان أقوى الاتصال ؛لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم ، بدليل ان المحبة من الله تجئ نتيجة لإتباعه الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى:{ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}فيه إيجاز معجز ،وهو إيجاز حذف دل عليه المقام ؛لأن المعنى:إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ،وإن اتبعتموني يحببكم الله ؛لن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء ،فكان ثمة فعل شرط مقدر ؛وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور:
ألهما:أن أول طرق محبة الله تعالى هو اتباعالرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته ، و عصيان الرسول عصيان لله تعالى ، و ليس من المعقول أن يحب الله تعالى و يعصيه ،و لذلك يقول الشاعر الصوفي:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
الأمر الثاني الذي يدل عليه النص الكريم:أن طاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه و تعالى لعبده . و أى منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه و تعالى .
الأمر الثالث:الذي يدل عليه النص القرآني:{ ويغفر لكم ذنوبكم}أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنتهي بمحبة الله تعالى يغفر له الله سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب ؛وذلك لن السيئات أدران تعلق بالقلب ،فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى ،بعد قيامه بحق الطاعات ،انصهر قلبه بهذه المحبة ،وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحا كل درن ،فصفا ،والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة .ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:{ والله غفور رحيم}:
وصفان كريمان للذات العلية:أولهما انه غفور ؛أي انه كثير الغفران لعباده ؛لأن فعول تدل على المبالغة ،ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى انه يحب من عباده الطاعة ،ويحب ممن عباده التوبة ؛فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه ،بل يتمنون إنزال العقوبة بهم ،والله سبحانه وله المثل العلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده ،ويحب المغفرة ،ولذلك وصف بالتواب ؛فالعقاب ليس لذاته ، ولكن لكيلا يتساوى المسئ بالمحسن ،وليحمل المسئ على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه .
والوصف الثاني الذي وصف به ذاته العلية:أنه رحيم .وكان من رحمته ان قبل التوبة وغفر الذنب ،ومن رحمته انه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس ،ويعلموا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا ،وبها تقوم على الخير والفضيلة ؛ولذا قال سبحانه وتعالى:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين107}[ الأنبياء] ،وكان من رحمته ان سن العقاب للمسئ المستمر على إساءته الموغل في الفساد ؛فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه ،ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس ان لا يرحم ؛ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم"من لا يرحم لا يرحم"{[489]} .
وقبل ان نترك الكلام في هذه الآية الكريمة ،لابد من الإشارة الواضحة إلى أمرين:
أولهما:في معنى الإتباع الذي يوجب المحبة ،ومعنى ترتيب المحبة على الإتباع .
وثانيهما:التعريف بهذه المحبة التي يتصف بها العبد ،وتترتب عليها محبة الله تعالى:أهي الطاعة ام شئ أعلى من الطاعة ؟وما محبة الله:أهي الرحمة أم امر أعلى من الرحمة والإحسان ،ولله الفضل والمنة في كل حال .
أما بالنسبة للأمر الأول ؛فإن النص الكريم{ قل عن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}يفيد الطريق والغاية ،أو الدليل والنتيجة ؛اما الطريق فهو إتباع الشريعة ،وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه ،ومحبة الرب لعبده ،أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق ،وكل بما يليق به ،وبما يتفق مع نوع وجوده ؛فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية ،وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه ،ونقص وجوده .
وقد فصل الله الإتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . . .54}[ المائدة] .
فعلامات الإتباع التي يترتب عليها ان يحبهم الله ويحبوه ،أربع:
أولها:أنهم أذلة على المؤمنين ،وقد قال عطاء في هذا:إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده ،وعلى الكافرين كالأسد على فريسته:{ أشداء على الكفار رحماء بينهم . . .29}[ الفتح] .
والعلامة الثانية:انهم أعزة على الكافرين ،أي لا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين ، ولا يختارون ان يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين .
العلامة الثالثة:الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال ،وذلك هو تحقيق دعوى المحبة .
والعلامة الرابعة:انهم لا يأخذهم في الله لومة لائم ،وهذه علامة صحة المحبة ،فكل أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة{[490]}
تلك هي آيات الإتباع الذي يوجب هذه المحبة ،وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة ،فقال:"أن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما"{[491]} وهذا الوصف هو الجامع لكل المارات التي لا يند عنه{[492]} شئ منها .
هذا هو القول في المر الأول ،وهو الإتباع الذي تترتب عليه المحبة .بقى ان تتكلم في المر الثاني وهو التعريف بالمحبة التي تكون من الله للعبد ،والمحبة التي تكون من العبد لله تعالى:
اما محبة الله فحال من أحوال الذات العلية لا نعرف كنهها ،ولا ندرك حقيقتها وهي تليق بذاته الكريمة ،وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود ،والذي خلق بقدرته كل موجود ،وهي غير الإحسان ،وإن كانت من فضل الله ،وغير الرحمة ،وغير الرضا ؛لن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده ،والإحسان والرحمة يعمان كل موجود ،والرضا وغن جعله جزاء أعلى للمحسنين ،كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم:{ ورضوان من الله اكبر . . .72}[ التوبة]نجد المحبة أكثر منه .وقد ذكرها الله سبحانه اللفظي لهما متغاير ،وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لا محالة ،بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا ،هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم .
وأما محبة العبد لربه ،فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها:الميل بكليته لربه ،وإيثاره على نفسه وماله ،ثم مرافقته له سرا وجهرا ،ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤد من واجبات وطاعات .
ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه ،وغن كانت ملازمة للإتباع المطلق للأوامر والنواهي ،وفي الحقيقة عن طاعة العبد لربه لها مرتبتان:
أولاهما:الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب ،والثانية:الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعض أصحابه"نعم العبد صهيب ،لو لم يخف الله لم يعصه".ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين:{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه عن عذاب ربك كانمحذورا57}[ الإسراء]فإن هذا النص الكريم ذل على أن ثمة مقامين جليلين:مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب ،والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه ،كما قال تعالى:{ أيهم أقرب}وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه ،وهذه هي الوسيلة المبتغاة ،والمحبة المرتجاة ،وإن المحبة تقتضي الأنس بذكر الله تعالى ،فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله ،ومعرفة الله ،وكمال العبودية له ،والشعور بكمال ألوهيته ،حتى يستغرق ذلك كل حسه ،وكل نفسه وقلبه ،ولا يكون موضع لتذكر سواه .
والمحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه ؛ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين:"المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم ،الذين ركبوا جناح السفر إلى ،ثم لم يفارقوه على حين اللقاء ،وهم الذين قعدوا على الحقائق ،وقعد من سواهم على الرسوم".
والمحبة ثلاث درجات:
أولاها:استغراق النفس بذكر الله ،فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شئ سواه ،ويصف الهروي في"منازل السائرين"تلك المحبة بأنها:تقطع الوساوس ،وتسلي عن المصائب ،وتثبت تلك الدرجة من الشعور بقوة الله ،ومن إتباع السنة المحمدية ،والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى .
والدرجة الثانية:وهي أعلى من هذه في درجات المحبة-هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب ،والجوارح بإيثار الحق ،ويقول فيها ابن القيم:"فيها مطالعة الصفات ،وشهود معاني آياته المسموعة ،والنظر إلى آياته المشهودة .وكل منها داع قوي إلى محبته سبحانه ؛لأنها أدلة على صفات كماله ،ونعوت جلاله ،وتوحيد ربوبيته وألوهيته ،وعلى حكمته وبره وإحسانه ،ولطفه وجوده ،وكرمه وسعة رحمته ،وسبوغ نعمه ،فإدامة النظر فيها داع لا محالة على محبته"{[493]} .
والدرجة الثالثة:المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب .وجاء في"منازل السائرين"في هذه المحبة( هذه المحبة هي قطب هذا الشأن ،وما دونها محاب نادت عليها الألسن ،وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول ) .
هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله اهل التصوف في المحبة بين العبد وربه ،وقد قبسنا منها قبسه نرجو ان تضئ في هذا الموضوع ،وإن كانت لا تدفئ .
وإن العبرة في هذا الموضوع هي ان الشريعة لا يصح ان تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة ،فإنها هي الدليل المرشد ،والمصباح المنير لمن يريد ان يصل إلى أحكام الشرع وهو طريق المحبة عند اهل السنة الراشدين ،وتنكب طريق الإتباع وادعاء الارتفاع عن التكليف هو مخرف اهل الابتداع الضالين .