سبب النّزول
لهاتين الآيتين روايتان في سبب نزولهما: إحداهما في تفسير «مجمع البيان » والأخرى في تفسير «المنار » .
الأُولى تقول: ادّعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّهم يحبّون الله ،مع أنّ العمل بتعاليم الله كان أقلّ ظهوراً في أعمالهم .فنزلت هاتان الآيتان بشأنهم .
وتقول الأخرى: حضر فريق من مسيحيّي نجران مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وزعموا في حديثهم أنّ مبالغتهم في تقديس المسيح ( عليه السلام ) إنّما ينطلق من حبّهم لله .فنزلت الآيتان تردّان عليهم .
التّفسير
الحب الحقيقي:
تقول الآية الأُولى إِنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب ،بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان .إنّ من يدّعي حبّ الله ،فعليه أوّلاً اتّباع رسوله: ( إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني ) .
في الواقع إنّ من آثار الحبّ الطبيعية انجذاب المحبّ نحو المحبوب والاستجابة له .صحيح أنّ هناك حبّاً ضعيفاً لا تتجاوز أشعّته جدران القلب ،إلاَّ أنّ هذا من التفاهة بحيث لا يمكن اعتباره حبّاً .لا شكّ أنّ للحبّ الحقيقي آثاراً عملية تربط المحبّ بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته .
والدليل على ذلك واضح ،فحبّ المرء شيئاً لابدّ أن يكون بسبب عثوره على أحد الكمالات فيه .لا يمكن أنّ يحبّ الإنسان مخلوقاً ليس فيه شيء من قوّة الجذب ،وعليه فإنّ حبّ الإنسان لله ناشئ من كونه منبع جميع الكمالات وأصلها .إنّ محبوباً هذا شأنه لابدّ أن تكون أوامره كاملة أيضاً ،فكيف يمكن لإنسان يعشق الكمال المطلق أن يعصي أوامر الحبيب وتعاليمه ،فإن عصى فذلك دليل على أنّ حبّه غير حقيقي .
هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيّي نجران والذين ادّعوا حبّ الله على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،بل هذا الردّ أصيل وعامّ في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون .إنّ الذين لا يفتأونليلَ نهاريتحدّثون عن حبّهم لله ولأئمّة الإسلام وللمجاهدين في سبيل الله وللصالحين والأخيار ،ولكنّهم لا يشبهون أُولئك في العمل ،هم كاذبون .
أُولئك الغارقون في الذنوب من قمة الرأس حتّى أخمص القدم ،ومع ذلك فهم يرون أن قلوبهم مليئة بحبّ الله ورسوله وأمير المؤمنين والأئمّة العظام ،أو الذين يعتقدون أنّ الإيمان والحبّ والمحبّة قلبية فحسب ،هم غرباء على منطق الإسلام تماماً .
جاء في «معاني الأخبار » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: «ما أحبّ الله من عصاه » .ثمّ قرأ الأبيات:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه*** هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطعته *** إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
( يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) .
تقول هذه الآية: إذا كنتم تحبّون الله ،وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم ،فإنّ الله سيحبّكم أيضاً ،وسوف تظهر آثار حبّه أنه سيغفر لكم ذنوبكم ،ويشملكم برحمته .
والدليل على هذا الحبّ المتقابل من قِبل الله واضح أيضاً ،لأنّه سبحانه موجود كامل ولا متناه من كلّ الجهات ،وسيرتبطعلى أثر السنخيةبكل موجود يقطع خطوات على طريق التكامل برباط الحبّ .
يتبيّن من هذه الآية أن ليس هناك حبّ من طرف واحد ،لأنّ الحبّ يدفع المحبّ إلى أن يحقّق عملياً رغبات حبيبه .وفي هذه الحالة لا يمكن للمحبوب إلاَّ أن يرتبط بالمحبّ .
قد يسأل سائل: إذا كان المحبّ دائم الإطاعة لأوامر المحبوب ،فلا يبقى له ذنب فيغفر له ،ولذلك فإن جملة ( ويغفر لكم ذنوبكم ) ليست ذات موضوع .
في الجواب نقول: أوّلاً يمكن أن تعني هذه الجملة غفران الذنوب السابقة .وثانياً أنّ المحبّ لا يستمرّ في عصيان المحبوب ،ولكن قد يزلّ أحياناً بسبب طغيان الشهوات ،وهذا هو الذي يغفره الله سبحانه .
الدين والحبّ
جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمّة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلاَّ الحب .ومن ذلك ما جاء في «الخصال » و «الكافي » عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: «وهل الدين إلاَّ الحبّ ؟» ثمّ تلا هذه الآية ( إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني ) .
هذه الأحاديث تريد أن تبيّن أنّ حقيقة الدين وروحه هي الإيمان بالله وحبّه ،ذلك الإيمان والعشق اللذين يعمّ نورهما كلّ الوجود الإنساني ويضيئانه ،وتتأثر بهما الأعضاء والجوارح ،ويظهر أثرهما في اتّباع أوامر الله .