التّفسير:
حضور الأعمال يوم القيامة:
تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة ،فيرى كلّ امرئ ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه .فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون ،والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها ( تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ) فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته ،لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً .
«الأمد » في اللغة الزمان المحدود ،و «الأبد » اللامحدود ،والأمد يقصد من استعماله غالباً انتهاء الزمان ،وإن استعمل أحياناً أيضاً في مطلق الزمان المحدود .
بناءاً على ذلك ،فإنّ المذنبينكما تقول الآيةيتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلاً ،وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة ،لأنّ طلب البُعد الزماني أبلغ فى التعبير عن هذا الاستياء من طلب البُعد المكاني ،فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني ،بينما ينتفي هذا الاحتمال تماماً في الفاصل الزماني .
فإذا عاش أحدمثلاًفي فترة الحرب العالمية ،شمله القلق والاضطراب وإن ابتعد مكانياً عن منطقة الحرب ،لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق .
هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد » معنى البُعد المكاني أيضاً ( كما ورد في مجمع البيان نقلاً عن بعض المفسّرين ) ،غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر .
( ويحذّركم الله نفسه واللهُ رؤوفٌ بالعباد ) .
في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره ،وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته .ويبدو أنّ هذين الجزءين هماعلى عادة القرآنمزيج من الوعد والوعيد .ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني ( والله رؤوف بالعباد ) توكيداً للجزء الأوّل ( ويحذّركم الله نفسه ) ،وهذا أشبه بمن يقول لك: إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر ،وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك ،إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك .
القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها
هذه الآية تبيّن بكل وضوح تَجسُّد الأعمال وحضورها يوم القيامة .كلمة «تجد » من الوجود ضدّ العدم .ولفظتا «خير » و «سوء » وردتا نكرتين لتفيدا العموم .أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة .
بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها ،أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها .
ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية ،لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة «يجد » عمله .وتقول: إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين «عمله » القبيح فواصل مديدة .فهنا «العمل » نفسه هو الذي يدور حوله الكلام .لا سجلّ الأعمال ،ولا الثواب والعقاب .
كذلك نقرأ في الآية أنّ المسيء يودّ لو بَعُدَ عنه عمله ،ولكنّه لا يتمنّى زوال عمله إطلاقاً .وهذا يعني أنّ زوال الأعمال غير ممكن ،ولذلك فهو لا يتمنّاه .
هناك آيات كثيرة أخرى تؤيّد هذا الأمر ،كالآية 49 من سورة الكهف .
( وَ وَجَدوا مَا عَمِلُوا حاضِراً ولا يَظلِمُ رَبُّكَ أحَداً ) والآيتان 7 و 8 من سورة الزلزال ( فَمَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) .
سبق أن قلنا إنّ بعض المفسّرين يرون أنّ لفظ «الجزاء » مقدّر وهذا خلاف ظاهر الآية .
يستفاد من بعض الآيات أنّ الدنيا مزرعة الآخرة ،وأنّ عمل الإنسان أشبه بالحبّ الذي يُزرع في التربة ،فتنمو تلك الحبّة ،ثمّ يحصد الإنسان معها حبّاً كثيراً .كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدّلات وتغيّرات تناسب يوم القيامة ،ثمّ تعود إلى الإنسان نفسه ،كما جاء في الآية 20 من سورة الشورى: ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ) .
ويستفاد من آيات أخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء ،فيطلبه المنافقون من المؤمنين: ( انظرُونا نَقتَبِس مِن نُورِكم )
فيقال لهم: ( ارجعوا وراءكم فالتمِسُوا نوراً ){[557]} .
هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل ،وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام .
هناك روايات كثيرة أيضاً عن أئمّة الإسلام تؤكّد هذا المعنى ،من ذلك:
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمن طلب أن يعظه:
«لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ ،وتدفن معه وأنت ميّت ،فإن كان كريماً أكرمك ،وإن كان لئيماً أسلمك ،لا يحشر إلاَّ معك ولا تحشر إلاَّ معه ،ولا تُسأل إلاَّ عنه ،ولا تُبعث إلاَّ معه ،فلا تجعله إلاَّ صالحاً ،فإنّه إن كان صالحاً لم تستأنس إلاَّ به ،وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاَّ منه ،وهو عملك »{[558]} .
ولإلقاء الضوء على هذا البحث لابدّ من معرفة كيفية الإثابة والعقاب على الأعمال .
رأي العلماء في الثواب والعقاب
للعلماء آراء مختلفة في الثواب والعقاب:
1يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الأخروي أمر اعتباري ،مثل المكافأة والعقوبة في هذه الدنيا ،أي كما أنّ هناك في هذه الدنيا عقاباً على كلّ عمل سَيّء أقرّه القانون الوضعي ،كذلك وضع الله لكلّ عمل ثواباً أو عقاباً معيّنين .وهذه هي نظرة الأجر المعيّن والجزاء القانوني .
2ثمّة آخرون يعتقدون أنّ النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب ،فالنفس تخلق ذلك في العالم الآخر دون اختيار ،أي أنّ الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيّئة ،وهذه الصفات تصبح جزءاً متمكّناً من ذات الإنسان ،وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب .فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصوّرات الحسنة ،والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوّراتهم الدنيئة في نومهم ويقظتهم .
وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء والسعادة .وبعبارة أخرى إنّ ما نقرأه عن نِعم الجنّة وعذاب جهنّم ليس سوى ما تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيّئة في الإنسان .
3فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتّخذوا سبيلاً آخر دعموه بكثير من الآيات والأحاديث .يقول هؤلاء: إنّ لكلّ عمل من أعمالناحسناً كان أم سيّئاًصورة دنيوية هي التي نراها ،وصورة أُخروية كامنة في باطن ذلك العمل .وفي يوم القيامة ،وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة ،يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأُخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته ،أو شقائه وعذابه .
هذه النظرة ،من بين النظرات الأخرى ،تتّفق مع كثير من آيات القرآن ،وبناءاً على ذلك ،فإنّ أعمال الإنسانوهي مظاهر مختلفة من الطاقةلا تفنى بموجب قانون بقاء «المادة / الطاقة » وتبقى أبداً في هذه الدنيا ،على الرغم من أنّ الناظر السطحي يظنّها قد تلاشت .
إنّ بقاء هذه الأعمال بقاء أبدياً يتيح من جهة أن يراها الإنسان عند محاسبته يوم القيامة ولا يبقى له مجال للإنكار ،كما يتيح للإنسان من جهة أخرى أن يعيش يوم القيامة بين أعماله ،فيشقى أو يسعد .وعلى الرغم من أنّ علم الإنسان لم يبلغ بعد مرحلة اكتشاف الماضي ،إلاَّ للحظات قليلة سابقة{[559]} ،فممّا لا شكّ فيه أنّه لو تمّصنع جهاز أدقّ وأكمل ،أو لو كانت لنا «رؤية » و «إدراك » أكمل لاستطعنا أن نرى وندرك كلّ ما حدث في الماضي .( ليس هناك ما يمنع أن يكون جانب من الثواب والعقاب ذا طابع توافقي ) .
العلم وتجسيد الأعمال
لإثبات إمكان تجسيد الأعمال الماضية ،يمكن الاستناد إلى مبادئ الفيزياء الثابتة اليوم ،فقوانين الفيزياء تقول إنّ المادة تتحوّل إلى طاقة ،وذلك لأنّ «المادّة » و «الطاقة » مظهران لحقيقة واحدة ،كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص ،وأنّ المادّة طاقة متراكمة مضغوطة تتحوّل إلى طاقة في ظروف معيّنة .وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادّة تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت .
ملخّص القول: إنّ المادّة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ،وبالنظر لعدم فناء الطاقة والمادّة ،فليس هناك ما يحول دون تراكم الطاقات المنتشرة مرّة أخرى وتتّخذ صورة مادّة أو جسم ،فإذا كانت نتيجة الأعمال صالحة ظهرت بصورة نِعم مادّية جميلة ،وإذا كانت شرّاً وسيئّة فإنّها تتجسّد في وسائل عذاب وعقاب .