/م28
الحذر من عذاب الله
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} وتأتي الآية الثانية لتجسّد لحظة المصير في كلمات تختصر النتائج وتصوّر الحالة النفسيّة للعاملين والمنحرفين في ذلك اليوم الذي يواجه فيه الإنسان العامل للخير كل أعماله الخيّرة أمامه محضرة جاهزةً بما يقدم إليه من رحمةٍ ولطفٍ ورضوان ونعيم ،فكأن القضايا قد أعدّت له قبل أن يقف في موقفه هذا ما يشبه حالة الانتظار التي ينتظر فيها الإنسان الذي يستحق الكرامة ،مظاهر الإكرام والإنعام .ولعل هذا هو الوجه في العدول عن التعبير بكلمة «حاضراً » بدل الكلمة التي جاءت في القرآن لتوحي بالاستعداد ،وهي كلمة{مُّحْضَراً} ...{وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيداً} أمّا الإنسان الذي عمل السوء وامتد فيه ،فإن الموقف يختلف لديه كلياً ،فهو يعيش حالة الرغبة في الهروب منه ،تماماً كمن يودّ لو أن الزمان الطويل يقف فاصلاً بين هذا العمل السيىء في ما يجسده من عواقبٍ سيّئةٍ ،وبينه ،لما يعانيه أمامه من حالة الضياع والتمزق والفرار .
وقد يوحي هذا التأكيد على الفاصل الزمني الذي يحول بينهم وبين عملهم السيّىء ،في نتائجه السيئة ،بدلاً من الفاصل المكاني ،بأن الزمن لا يتأتى معه الحضور واللقاء ،بينما يمكن ذلك في الفاصل المكاني ،وهذا أبلغ تعبير عن الإحساس بالقلق والخوف والضياع ،لأن الإنسان يريد للزمن أن يتباعد عنه حتى لا يلتقي به في كل حياته ،فلا يعيش الكابوس الجاثم على صدره الذي يريد أن يطبق على كل وجوده ومصيره بعذاب الله .
ويحذركم الله نفسه
وتنتهي الآية بالحقيقة الإلهية التي يجب أن ينتبه إليها العباد ،وهي عدم الاستسلام لحالة الاسترخاء التي يعيشها الإنسان في ظلّ العافية من البلاء في الدنيا ،فيظنون أنّ الله سيتركهم بدون عقاب ،وأنّ التمرّد على الله لا يستتبع مسؤولية ،بل ليس هناك إلا العفو والمغفرة .
إن الآية ،هنا ،كالآية الأولى ،تدعو الإنسان إلى الحذر من عذاب الله ،بأسلوب ينطلق فيه التحذير من الله{وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} لأن الله يرحم حيث تكون الرحمة حكمة ومصلحة في موضع العفو والرحمة ،ويعاقب بالاستحقاق حيث يكون العقاب حكمةً ومصلحة ،في موضع النكال والنقمة .فما الذي يؤمن الإنسان من عذاب الله عند المعصية ،إذا كانت القضية خاضعة لإرادة الله وحكمته التي لا يعلمها إلا هو ...
ثم تختم الآية بإثارة المشاعر المشبعة بالرأفة والرحمة في علاقة الله بعباده ،{وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ} فإنه يعاملهم بالرأفة والرحمة ،حتى في الحالات التي يحذّرهم ويتوعّدهم فيها ،لأنه يريد بذلك إصلاحهم وإيصالهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ،ليظل الإنسان مشدوداً إلى رحمة الله ،حتى وهو ينتظر العذاب ،فيقوده تفكيره إلى أن يتصور العذاب رأفةً ،لو أمكنه أن يمتد بعيداً في هذا التصور والتفكير .
هل في الآية دلالة على تجسيد الأعمال ؟
حاول بعض المفسرين أن يجد في هذه الآية وأمثالها من الآيات دليلاً على نظرية تجسّد الأعمال وحضورها في صورة معينة حسيّةٍ في يوم القيامة ،بحيث يواجه الإنسان واقع عمله الصالح في الدنيا صورةً جميلةً مشرقةً أو نوراً يضيء له ذاته ،كما يضيء له الطريق أمامه ،بينما يواجه في عمله السيّىء ،صورةً قبيحة منفّرةً أو ظلمةً تظهر على وجهه وتحيط به من كل جوانبه ،فلا يرى أمامه أية علامة على الطريق .
وقد ارتكز في ذلك على أن الآية ظاهرة في أن الإنسان يجد عمله الحسن أو القبيح يوم القيامة ماثلاً بطريقة حسية ،فإذا حدّق بعمله السيّىء ورأى صورته المشوّهة التي تبعث على النفور وتدعو إلى التقزّر ،تمنّى لو أنَّ الزمن كله يكون فاصلاً بينه وبينه ،ويلاحظ أنه لم يتمنّ زواله وغيابه ،لأنه لا مجال لذلك باعتبار وجوده الحسّي الماثل أمامه .
وتلتقي هذه الآيةفي هذه الدلالةبقوله تعالى:{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [ الكهف: 49] ،وقوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [ الزلزلة: 78] .
فإن هذه الآيات تنسب الحضور للعمل نفسه ،كما تدل على أن فاعل الخير أو الشر يرى عمله الخيّر أو الشرير ماثلاً أمامه بنفسه .
فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى:{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [ الشورى: 20] فإننا نستوحي منها أن الإنسانفي عملهينثر البذر في الأرض فينمو ويتكاثر كأية حبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبّة ،فيكون حصاده في الآخرة مضاعفاً من خلال حرثه في الدنيا ،وكما يجد الإنسان الحب الكثير من خلال زراعة الحبة الواحدة في الدنيا ،كذلك يحصد الإنسان في الآخرة ما زرعه في الدنيا ،ولكن مع بعض التبدل والتغيير الذي يتناسب مع الجو هناك .وقد يؤكد هذا الجوّ قوله تعالى:{وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [ التحريم:8] .وقوله تعالى في حديث المنافقين مع المؤمنين:{انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [ الحديد: 13] ،فيقال لهم:{ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} [ الحديد: 13] .
وهكذا تلتقي هذه الآيات في الظهور بأن العمل المتجسد هو الذي يبدو للإنسان بشكل حسّي ،وربما يتحدث بعضهم عن الأفاعي والعقارب كنموذج لصورة الأعمال السيئة ونحو ذلك .
مناقشة الاستدلال على التجسيم
ونلاحظ على هذا الاستدلال أنه ناشىءٌ من الجمود على حرفية اللفظ في دلالته على المعنى الموضوع له ،الذي هو المعنى الحقيقي للفظ ،باعتبار أن إرادة غيرهعلى نحو التقدير أو المجازيحتاج إلى دليل مفقود في المقام ،وبذلك تتأكد النظرية المطروحة في المقام من خلال هذا النهج الحرفي لفهم القرآن وغيره .
ولكننا نلاحظ في هذه الاستعمالات المذكورة في التصور المطروح ،أن الكلام واردٌ على سبيل الاستعارة التي تعبّر عن جزاء الأعمال برؤيتها ،باعتبار أن الإنسان يتحسس عمله في حياته على مستوى النتائج السلبية أو الإيجابية ،فيرى عمل الشرّ في النتائج الشريرة ،كما يرى عمل الخير في النتائج الخيّرة ،لأن العمل يختزن في داخله آثاره التي إذا شاهدها على صعيد الواقع فكأنه شاهد العمل نفسه .وليس المراد رؤية صورة العمل التي يتجسد فيها في النهاية بطريقة حسيّة ،ولعلّ هذا التعبير واردٌ على نحو الجزاء في الدنيا ،مع أنه لا معنى للتجسد في الدنيا ولا واقع له ،ولا التزام به من قبل أحد ،فقد يمكن لنا أن نطلق آيتي الزلزلة على واقع الأعمال في نتائجها على صعيد الواقع الدنيوي كما نطلقها على صعيد الواقع الآخروي .
وهكذا نفهم أنّ حضور العمل وتحضيره واردٌ بأسلوب الكناية ،للإيحاء بعدم نسيانه وعدم الغفلة عنه بمرور الزمن ،بل يجده الإنسان حاضراً أمامه في عملية الإحصاء الدقيقة التي يتضمنها الكتاب ،وربما نستفيد هذا المعنى في قوله تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [ الكهف: 49] ،فإن الظاهر أن المراد حضوره في الوعي من خلال تذكره ،وفي الحساب عندما يقف المرء ليحاسب عليه .
وهكذا نلاحظ الاتجاه الاستعمالي نفسه في الحديث عن حرث الآخرة في الدنيا ،فإن المقصود به حصاد النتائج المترتبة على الأعمال الخيّرة ،على هدى القول المأثور: «إنما يحصد ابن آدم ما يزرع » والمثل المشهور: «من يزرع الريح يحصد العاصفة » .وأمّا النور الذي يتمثل في وجوه المؤمنين والمؤمنات ،فقد يكون ثواباً على أعمالهم ،باعتبار أن الله يمنحهم إشراق الوجه والطريق من خلال ما قدموه من عمل ،كما يمنحهم النعيم في الجنة ،بل هو نوع من ألوان النعيم الجمالي التي يتحسس الإنسان لذتها الروحية والمادية في إحساسه بذاته كما يتحسس الجميل في الدنيا لذة جماله ،وليس من الضروري أن يكون ذلك صورة العمل المتجسدة في الواقع .ولعلنا نستوحي ذلك من قولهمفي ما حكاه الله عن حديثهم معه{رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [ التحريم: 8] ،فكأنهم يستزيدون ثواب العمل بزيادة النور الذي هو مظهر ذلك ،ولو كانت المسألة مسألة صورة العمل ،لكان هذا النقصان طبيعياً ناشئاً من الواقع المادي للعمل الذي يستتبع صورته العادية بشكل طبيعي .
وخلاصة الكلام ،أن فكرة تجسيد العمل لا تتناسب مع طريقة التعبير البلاغي للأسلوب القرآني ،كما أنها من الأفكار التي لا دليل عليها من الواقع الإنساني على هدى الحديث عن «صورةٍ دنيويةٍ للعمل ،هي التي نراها ،وصورة أخروية كامنةٍ في باطن ذلك العمل .وفي يوم القيامة ،وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة ،يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأخروية ،فيبعث على راحة فاعله وسكينته ،أو شقائه وعذابه » .
إنّ مثل هذا الكلام ،لو كان صحيحاً على مستوى كونه أمراً ذاتياً للعمل بحيث تكون له صورة داخلية كامنة في ذاته ،لكان له ظهور في واقعه الحركي الذي تتمثل فيه صورة أعماله في ذاتياتها الطبيعية ،بحيث يحسها الإنسان في وجوده ،ولكننا لا نرى لذلك أثراً عنده إلا بلحاظ نتائجه السلبية أو الإيجابية في الحاضر والمستقبل ،أو بلحاظ ذكرياته الذهنية ،ليعيش إيحاءاته في الصورة التي يتذكرها من خلال الإحساس بآثاره .ومن الطريف أن القائل بهذا القول يرىبناءً على ذلك«أن أعمال الإنسانوهي مظاهر مختلفة من الطاقةلا تفنى بموجب قانون بقاء «المادة/الطاقة » وتبقى أبداً في هذه الدنيا ،على الرغم من أن الناظر السطحي يظنها قد تلاشت » .
إن هذا النوع من الاستنتاج يقترب من الخيال الذهني ،لأن قصة «بقاء المادة/ الطاقة » قد تكون في جانبها الجوهري الحسي الذي يختزن الطاقة حتى بعد تحوّله إلى تراب ،باعتبار أن التراب يختزن في داخله العناصر الذاتية فيه ،ولكن ذلك قد لا يكون له واقع في الجانب العرضي الآني ،وهو الحركة الطارئة التي هي عبارة عن معنى العمل الصادر من الإنسان ،فإنهاتماماًكمثل النفس الذي يتنفسه ،والإحساس الذي يحسّه ،ونحو ذلك مما يذهب بذهاب وقته من دون أن يبقى منه شيء إلا الذكرى ،لأنه ليس متجذراً في الجسد ،بل هو مظهر من مظاهر حركته الإرادية .
إننا لا ندّعي استحالة ذلك من خلال إرادة الله في خلقه مما يمكن أن يخلقه في الإنسان في الدنيا والآخرة خلقاً جديداً ،ولكن الحديث عن بقاء «المادة/ الطاقة » لا يقتضي ذلك حتى بلحاظ ما ذكره استشهاداً بقوانين الفيزياء التي تقول «إن المادة تتحول إلى طاقة » ،وذلك لأن «المادة » و «الطاقة » مظهران لحقيقةٍ واحدة ،كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص ،وأن المادة طاقة متراكمة مكثفة ،تتحول إلى طاقة في ظروف معينة .وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادة ،تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت .فإنّ هذا قد يصدق في المادةالذات ،لا المادةالعرض الذي لا وجود له في الواقع ،بل هو أثر الطاقة الموجودة في المادة بشكل طارىء من خلال اقتضاء الحركة الإرادية ذلك ،وليس هو المادةالطاقة نفسها .
إننا نتصور أن الفكرة انطلقت في بُعدها القرآني من الاستغراق في حرفية النص بعيداً عن الأسلوب البلاغي الذي يتميز به القرآن في عملية التخييل الذهني الذي يوحي بالمعنى كما لو كان في عالم الحس ،ليزيده عمقاً في الفكر ،وليتمثله الإنسان في صعيد النتائج الحاسمة كما لو كان ماثلاً أمامه ؛والله العالم بحقائق آياته .