وهي في نذرها وفي ضراعتها لقبول هذا النذر كانت تفرض ان الحمل ذكر ،لأنه هو الذي يصلح لسدانة المسجد الأقصى والبيت المقدس ،ولكنها عند الولادة تبين انها أنثى ،فذكرت ذلك ،وأشارت في ذكرها على تقديرها وفرضها ؛ولذا حكى الله عنها انها قالت:
{ فلما وضعتها قالت رب غني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}أي انها قدرت الحمل ذكرا ،وقدرت لذلك أن يكون في خدمة البيت وأنها لذلك تتحسر ؛لأنه لا يستطيع المولود بعد ان تبين انه أنثى الخدمة ،فليس في هذه الخدمة المقدسة الذكر كالأنثى ،فإن الأنثى لا تستطيع ذلك .وقوله تعالى:{ والله اعلم بما وضعت}جملة معترضة بين كلاميها ؛وهي تشير إلى ان الله تعالى اعلم منها بما وضعت ،فليس لها هذا الاعتذار لأن من تعتذر إليه ،وتتحسر بين يديه اعلم منها بما وضعته ؛لأنه هو الذي خلقة وجعله أنثى ،وهو اعلم بما يصلح له ،وهو وحده العليم بما هيأ له في لوح القدر ،فإذا كانت لا تستطيع خدمة البيت كالذكر فقد اختارها رب العالمين ليكون منها عيسى عليه السلام من غير أب ؛ولذا قال الزمخشري في هذا:"قال الله تعالى:{ والله اعلم بما وضعت}تعظيما لموضوعها . .ومعناه والله اعلم بالشئ الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور ،وان يجعله وولده آية للعالمين ،وهي جاهلة بذبك لا تعلم عنه شيئا".وقوله تعالى:{ وليس الذكر كالأنثى}إما من كلام الله فيكون في الجملة المعترضة ،ويكون المنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي أعطيت في الشرف والمكانة والعبادة بل هو دونها ،وهذا هو الظاهر ؛وإما ان يكون من كلامها وهو غير الظاهر ؛إذ يكون الأولى حينئذ التعبير بقولها:وليس الأنثى كالذكر لأنها ترى الذكر أفضل .
ومع ان هذه التقية تتحسر على ان مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت ؛ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت ،فقد رضيت بما وهب الله تعالى ،وضرعت غليه ان يهديها ولذا قالت:
{ وإني سميتها مريم وغني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}فهي قد اختارت الاسم راضية بما أعطيت ،قال الزمخشري في الكشاف:"وغن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى ؛لأن مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم فأرادت بذلك التقرب إلى الله ،والطلب إليه ان يعصمها ،حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها ،وان يصدق فيها".ولذا طلبت إلى ربها ان يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم .ومعنى الإعاذة ان تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان ؛وذلك لن التعوذ الالتجاء .فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه ،واتخذ منه معاذا ؛ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه ،وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى ،فكان هذا الدعاء عبادة أخرى .وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة ،وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى .
والشيطان:ما يوسوس في النفس ،وهو يجري من الإنسان مجرى الدم .والرجيم أي المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال له رب البرية:{ قال فاخرج منها فإنك رجيم34 وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين35}[ الحجر] .وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من ان يمسها الشيطان .وقد ورد في ذلك بعض الآثار .
ولقد قال الزمخشري في ذلك:يروى من الحديث"ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها"{[495]} فالله اعلم بصحته ،فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها ،فإنهما كانا معصومين ،وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى:{ ولأغوينهم اجمعين39 إلا عبادك منهم المخلصين40}[ الحجر] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه ،كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ،هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن به الدنيا من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد