قوله: ( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ) كان الغالب على ظنها أنه ذكر وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى .
قوله: ( والله أعلم بما وضعت ) وهذا من كلام الله ،لا أم مريم .وهو قول عامة القراء .أي أن ذلك خبر من الله عز وجل عن نفسه أنه العالم بما وضعت .وقيل: إن ذلك على وجه الخبر عن أم مريم أنها هي القائلة .والأول أصوب .وعلى هذه القراءة- وهي أن قائل ذلك هو الله- يكون المعنى أن الله تعالى قال: والله أعلم بما وضعت تعظيما لولدها وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد .ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وأن يجعله ( مريم ) وولده آية للعالمين ،وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت .
وفي قراءة ابن عباس ( والله أعلم بما وضعت ) على خطاب الله لها .أي: أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله العالم بما فيه من العجائب والآيات .
قوله: ( وليس الذكر كالأنثى ) أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى .
قوله: ( وإني سميتها مريم ) أي العابدة في لغتهم .
قوله: ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) أي وإني أجعل معاذها ومعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم بك ،وأصل المعاذ الموئل والملجأ المعقل .نقول: عاذ به ،واستعاذ به أي لجأ إليه .وهو عياذه ،أي ملجؤه .ومعاذ الله ،أي أعوذ بالله معاذا .وعذت به معاذا وعياذا ،أي اعتصمت{[452]} .
أي أن امرأة عمران ما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما لبيت الله تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها من الشيطان الرجيم وأن يجعلها من الصالحات القانتات{[453]} .
والشيطان: كل عاتٍ متمرد من الإنس أو الجن أو الدواب .والشاطن معناه الخبيث .والعرب تسمي الحية شيطانا{[454]} .
والرجيم .من الرجم وهو القتل ،وأصله الرمي بالحجارة .رجم فلانا أي رماه بالفحش من القول ،أو لعنه ،أو اطرده{[455]} أي أن امرأة عمران أعوذت ابنتها مريم بالله عز وجل من شر الشيطان ،وأعوذ ذرية مريم وهو ولدها عيسى المسيح عليه السلام ،أي تضرعت إلى الله أن تكون مريم وولدها في رعاية الله وصنه ،وأن يكونا في عياذ الله أي في عصمته وكلاءته .
وقد استجاب الله لها دعاءها .يؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مسه إياه إلا مريم وابنها "ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ){[456]} .