{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} هذا بيان لسبب علم الله بعامة ، زو علمه بالإنسان خاصة ، فإنه علم المكون المنشئ ، الخالق المبدع ، و من ذا الذي لا يعلم ما أنشأه و كونه و أبدعه على غير مثال سبق ؟! و لذا قال تعالى:{ ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير 14} ( الملك ) . فهذه الآية الكريمة في مقام التعليل للآية السابقة ، إذ الأولى بينت أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء ، و هي تتضمن الإشارة إلى أن ما تخفيه السرائر من بواعث على الإيمان أو الكفر ، و الوفاق أو العناد ، يعلمه سبحانه لأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء . و هذه الآية تفيد أن الله سبحانه و تعالى يعلم الإنسان لا بعد أن استوى و صار في أحسن تقويم ، بل يعلمه و هو نطفة لفظت ، ثم استقرت في الأرحام ، و بعلمه كذلك علم المكون المنشئ المربى الذي يتولى بقدرته تصويره حتى يصير بشرا سويا .
و التصوير:مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه ، أو من صَارَهُ إلى كذا بمعنى أماله و حوله ، فالتصوير معناه إذن تحويل شيء من حال إلى حال مغيرا في شكله و هيئته بإمالته من مشابهة شيء إلى مشابهة شيء آخر ، و كذلك صنع الله تعالى في النطفة ، فإنه يحولها إلى علقة ،ومن علقة إلى مضغة ، ثم يجعل المضغة عظاما ، و هكذا ، و تحويل الله و تصويره ليس تغييرا في الشكل ، بل هو تنمية ، و تكوين ، و تدرج في هذا التكوين يستمر من وقت إيداع النطفة في مستودعها ، حتى يصير إنسانا في أحسن تقويم ، بل يستمر التكوين حتى يبلغ أشده .
و الأرحام:جمع رحم ، و هو مستودع النطفة في المرأة الذي فيه يتربى و ينمو ، و يجري تصوير الله له و تكوينه إياه ، حتى يبرز في الوجود حيا يحس و يسمع ، ثم يعلم و يتعلم ، و الله سبحانه و تعالى على كل شيء قدير .
و قوله تعال:{ كيف يشاء} فيه بيان لأمرين:
أحدهما:أن هذا التكوين تبع لمشيئة الله و إرادته ، فلم يكن وجوده كوجود المعلول من علته ، و كالمسبب من سببه ، إنما وجوده و تكوينه و نموه بإرادة الله تعالى و مشيئته ، و هو فعال لما يريد .
الأمر الثاني:بيان أن الله وحده هو الذي يجعله ذكرا و أنثى ، و جميلا أو دميما ، و أبيض أو أسود ، بل إنه سبحانه يكتبه وهو في رحم أمه شقيا أو سعيدا ، مؤمنا أو كافرا ، عالما أو جاهلا ، تعالى الله سبحانه في عمله علوا كبيرا .
و لقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة فيها رد على بعض النصارى الذين اعتبروا المسيح عيسى بن مريم إلها ، لأنه ولد من غير أب ، فالله سبحانه و تعالى يبين في هذه الآية أنه هو الذي صوره وكونه في رحم أمه ، كما يكون سائر الناس ، و ما كان الإله قابلا للنمو من الصغر إلى الكبر ، و من النطفة إلى العلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، و إذا كان رب البرية قد ألقى في رحم مريم ما هو خمن جنس النطفة البشرية من غير أب يودعها فإن التكوين الذي يسري على البشر سرى عليه فيكون إلها ؟ و يزكي هذا أن الآيات من أول السورة إلى ثمانين آية كان سبب نزولها – فيما يروى في أسباب النزول – وفد نجران و مناقشة النبي صلى الله عليه و سلم ، و سواء أصح ذلك سبب للنزول أم لم يصح فإن الآية فيها رد على من يدعي ألوهية المسيح .
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم} في هذه الجملة السامية تقرير للوحدانية و انفراده سبحانه و تعالى بالألوهية و حق العبودية ، بعد أن قدم ما هو دليل على هذه الوحدانية ، و هو العلم الشامل لكل شيء الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ة لا في السماء ، و بعد أن أشار سبحانه إلى أنه المكون لكل شيء و خص الإنسان بالذكر ، لأنه هو الذي يتمرد ويضل ، و كل ما في الوجود مسخر له كما قال تعالى:{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا . . .29} ( البقرة ) .
ثم ختم سبحانه وتعالى بالعزة و الحكمة ، لبيان كما لسلطانه في ملكه الذي خلقه ، و إثبات انه لا سلطان لأحد معه حي يشترك في عبادته سبحانه و تعالى ، و كيف يكون إله لا سلطان له! و لبيان أن الله سبحانه يدبر هذا الكون بواسع علمه و عظيم حكمته ، إنه على كل شيء قدير ، و هو نعم المولى و نعم النصير .