{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر إلا أولوا الألباب ( 7 )}
في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية ، و أنه فرقانها و ميزانها ، و ذكر أنه سبحانه و تعالى العليم بكل شيء ، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء ، فهو العليم بخلقه ، و العليم بما ينزل عليهم من آيات بينات ، و العليم بمداركهم البشرية ، و طاقتهم العقلية ، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون ، و في هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له ، و تطلعهم لفهمه ، و تباين مقاصدهم في طلب حقيقته و معناه ، و غايته و مرماه ، و فيها بيان أنها قسمان:قسم لا تدركه كل العقول ، و قسم تدركه كل العقول المميزة ، و أن ما يعلو على الإدراك ، أصله ما أدركه كل الناس . و لذا قال سبحانه:{ هو الذي أنزل عليك الكتاب} الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة ، إذ قد وصف ذاته – جلت قدرته – بأنه الحي القيوم على كل شيء ، و الذي به يقوم كل شيء ، و بأنه منزل الكتب من السماء ، و جاعل القرآن ميزانها ، و أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء ، و أنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنسانا مستويا كامل التكوين ، و هو الذي يصوره ذلك التصوير ، و يكونه ذلك التكوين ، و هو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه ، و لا شيء في الوجود إلا كان خلقه ، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته و علمه بكل شيء ، فقوله تعالى:{ هو الذي أنزل} الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات . و قوله:{ الذي أنزل عليك الكتاب} معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة و فرقانها ، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك ، و قد اختارك موضع رسالته ، و أداء أمانته ، و{ الله أعلم حيث يجعل رسالته . . . 124} ( الأنعام ) و هو أعلم بشأن الكتاب و ما جاء فيه ، و تلقي الناس له ، و مقدار إدراكهم لما فيه ، و قد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين ، أحدهما:يدركه كل الناس ، و الثاني:فوق مستوى عامة الناس ، و لذا قال بعد ذلك:
{ منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات} أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له:محكم ، و متشابه ، و لقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى:{ الر كتاب أحكمت آياته . . . 1} ( هود ) أي أنها نزلت محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها ، و وصفه الله سبحانه و تعالى بأنه متشابه ، فقد قال تعالى:{ كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله . .23} ( الزمر ) و معنى التشابه هنا هو انه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره ، و تآخي معانيه ، و إحكام نسقه ، و فصاحة ألفاظه ، و قوة تأثيره بألفاظه و معانيه ، فهو في هذا متشابه ، أي يشبه بعضه بعضا .
و في هذه الآية التي نتكلم في معانيها وصف القرآن بأن منه آيات محكمات ، و أخر متشابهات ، فلا شك أن معنى محكم هنا غير معناها في قوله تعالى:{ كتاب أحكمن آياته . . .1} و تشابه غير معناها في قوله تعالى:{ الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني . . .23} و إن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم و متشابه في أصل معناها اللغوي . وهذا ما جاء في كتب اللغة:العرب تقول:حاكمت و حكمت و أحكمت بمعنى رددت و منعت ، و الحاكم يمنع الظالم من الظلم ، و حكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب . و روى إبراهيم النخعي:أحكم اليتيم كما تحكم ولدك . أي امنعه عن الفساد .
و قال ابن جرير الطبري:أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم ، و بناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له . و سميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي . و أما التشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر ، بحيث يعجز الذهن عن التمييز ، قال تعالى:{ إن البقر تشابه علينا . . .70} ( البقرة ) و قال في وصف ثمار الجنة{ و أتوا به متشابها . . .25} ( البقرة ) أي متفق المنظر مختلف الطموع ، و قال تعالى:{ تشابهت قلوبهم . . .118} ( البقرة ) . و منه يقال:اشتبه علي الأمران ، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام:"الحلال بين ، و الحرام بين ، و بينهما أمور متشابهات ". و في رواية أخرى "متشابهات "{[450]} . ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمى كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا ، سواء أكان له مشاله أم لم يكن له مشابه{[451]} .
و على هذا الأساس اللغوي:نقول:إن التشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا ، أو ما لا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل ، أو ما يدق و يختفي على العامة ، و لا يستغلق على الخاصة . هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى التشابه ، فإما أن نقول إنه ما لا يكون معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا ، و إما أن نقول إنه ما يمكن معرفته و لكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم ، و المحكم هو ما يقابل التشابه ، و هو الواضح البين للعامة و الخاصة الذي لا تتفاوت في إدراكه الأنظار ، و ما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل ، و هو أم الكتاب ، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته ، و الجزم بمعناه ، و التصديق بمغزاه . فالآيات المحكمات أم الكتاب ، أي أصله الذي يرجع إليه ، و يحمل المتشابه عليه ، و يخرج بتخريج لا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل . فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ ، و التأويل الصادق ، فما شهدت له ، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل ، و ما يخالفه فهو الزيغ في الدين ، و الخروج عن جادته .
و المتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين ، إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته ، كحقيقة الروح ، و حقيقة الجن و الملائكة ، و ما يكون يوم القيامة ، و كيف يكون نعيم الجنة الحسي ، و عذاب الجحيم المادي ، و كيف ينشئ الله الخلق ، و كيف يعيده ، و كيف يتجلى سبحانه يوم الحساب ، و هكذا مما غيبه الله تعالى علينا ، لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه ، و بالمادة التي ندركها ، و علم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا ، لأنه يعلو عن مداكرنا في هذه الدنيا ، و علينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم ، و ما جاءت به السنة الصحيحة ، فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب ، إذ قال سبحانه في أوصافهم:{ الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون 3} ( البقرة ) .
هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه .
أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم ، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون و تكوين السماء و الأرض ، و بعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه و تعالى ، و نحو ذلك من الحقائق التي لا يخوض فيها إلا أهل الذكر ، و هي دقيقة في معناها .
هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة ، و يدخل في عمومها كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام{[452]} . و نرى أن كلا الوجهين تحتملها الآية ، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر ، بل يصح لنا أن نقول:
إن الوجهين معا مرادان ، و سنختار ذلك ، و نبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى .
و إن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وجد الذين زاغوا و أضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم و يضلوهم ، و ذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه و بين الآيات المحكمات و هن أم الكتاب ، و لذا قال سبحانه:
{ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله} في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه و تعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان ، كما أن آيات القرآن قسمان ، و لكلام الله تعالى المثل الأعلى ، فالقسم الأول يتلقى الهدى القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه ، ما يعرفه يهتدي به ، و ما لا يغرفه يؤمن به ، و يفوض فيه الأمر إلى ربه ، و يقول:{ قل ما أسألك عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين 86} ( ص ) .و القسم الثاني زاغ ، فأزاغه الله عن الحق . و قد ذكر الله ذلك القسم ، و يفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون:{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} .
و الزيغ أصل معناه في اللغة:الميل عن الاستقامة . و التزايغ التمايل ، و رجل زائغ:أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق . و المعنى على هذا:أن الذين في قلوبهم زيغ ، أي ميل عن طلب الحق و عدم أخذ بالمنهج المستقيم ، لا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن ، بل يتبعون ما تشابه من القرآن ، لأنه بغيتهم ، و يجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم ، و عدم استقامة تفكيرهم ، و ما ينطوي عليه مقصدهم الباطل ، فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس ، و إذا تحكم الهوى و سيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط و الغلب و حب السلطان ، و شهوة المال ، و شهوة النساء ، و شهوة المفاسد ، فإن القلوب تركس ، و تفسد ، فلا تطلب الحق لذات الحق ، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس ، و أولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصونه و يتعرفون مواضع الريب ، ليثيروا الشبهات حول الحق ، و يشككون الناس فيه ، و لذا قال سبحانه:{ ابتغاء الفتنة} أي طالبا لفتنة الناس عن دينهم و خدعهم ، و إثارة الريب في قلوبهم ، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن ، مثل أن يقولوا:ما نعيم الجنة و ما جحيمها ؟ و{ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد . . . 5} ( الرعد ) . و كيف يخلق الله العالم ؟ و هكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية ، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية . فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول ، و لذا ذكر أولا ، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال:{ و ابتغاء تأويله} فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى و الرغبة في تضليل الناس و إثارة الشكوك حول حقائق الدين ، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول ، و الرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لا تتحقق الفتنة إلا بها .
و التأويل في اصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته "من الأول أي الرجوع إلى الأصل ، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه عملا أو فعلا "فهو معرفة الغاية ، إما بمعرفة المراد المقصود ، و لذلك أطلق التأويل على التفسير و معرفة ما يخفى من الحقائق و إرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه ، و إما بمعرفة المآل و النتيجة عملا ، كما في قوله تعالى:{ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كمنا نعمل قد خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون 53} ( الأعراف ) .
و التأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا ، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به ، و كأن يطلبوا إحياء بعض الموتى ، و قد يفسرون تفسيرات المقصود منها تشويه الحقائق و تضليل العقول ، و قد قصدوا في الأمرين الضلال .
و إن الله سبحانه و تعالى قد بين بعد ذلك أن معرفة المآل عند الله تعالى وحده ، و معرفة المعنى قد يدركها الراسخون ، فقال سبحانه:
{ و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} في هذا النص كريم قراءتان:إحداهما بالوقف عند لفظ الجلالة ، و الابتداء بقوله تعالى في استئناف للقول:{ الراسخون في العلم} . و هذه القراءة يستفاد منها أن معرفة التأويل و العلم به هي لله وحده ، و على هذا يكون التأويل بمعنى معرفة مآل ما اشتمل عليه القرآن من أخبار اليوم الآخر و غيره من مغيبات عن الحس . و القراءة الثانية بالوصل من غير وقف ، بعطف الراسخين في العلم على لفظ الجلالة ، و معنى هذا أن العلم بالتأويل عند الله ، و يعرفه الراسخون في العلم من غير زيغ مع استقامة المنهاج ، و وضوح الغاية ، و التأويل هنا بمعنى التفسير و تعرف المراد علما .
و إذا كانت قراءة القرآن سنة متبعة و كل قراءة هي بذاتها قرآن متلو مبين ، فمجموع القراءتين يشير إلى أن قسمان ، إحداهما:علم بالمآل و الغاية ، و هذا لا يعلمه إلا الله ، كما أشارت القراءة الأولى ، و القسم الثاني من التأويل علم بالتفسير و المراد من الألفاظ ، و هذا يعلمه الله ، و قد يعرفه الراسخون في العلم ، و هم في الحالين يقولون آمنا ، أي صدقنا و أذعنا ، كل من عند ربنا ، فهم مفوضون مؤمنون مذعنون في حال علمهم و جهلهم ، مصدقون بأن المحكم و المتشابه من عند الله . فمعنى{ كل من عند ربنا} أي كل واحد منهما يجب الإيمان به من غير تشكيك . و هذا هو الفرق بين الزيغ ، و استقامة الفكر ، فالمستقيم المفكر المؤمن يتقدم الإيمان على طلب التأويل ، أما الآخر فيطلب التأويل ليلقي بالريب و الشك .
و إن المنهاج المستقيم الذي يطالب به الإسلام هو منهاج أهل العقول الراجحة المستقيمة ، و هم الثابتون في تفكيرهم و إيمانهم ، الذين لا تعبث بإيمانهم الأهواء ، لأنه إيمان عميق ، و سماهم العلي الحكيم::"الراسخين "في العلم ، من الرسوخ و هو الثبات و التمكن ، فالراسخ في العلم المؤمن الثابت الإيمان المتحقق الذي لا تعرض له شبهة إلا أزالها بنور بصيرته ، إذ الشبهة كالظلمة يبددها الضوء الساطع . و قد بين سبحانه أن أولئك هم هم الذين يتذكرون القرآن ، و يتدبرون معانيه ، و يدركون مراميه ، و هم ذوو الألباب حقا و صدقا ، و لذلك ختم الله سبحانه و تعالى الآية بقوله:
{ و ما يذكر إلا أولوا الألباب} أي ما يدرك الحقائق الدينية و يعتبر بها ، و يتذكر ما في القرآن من عبر و مواعظ و هداية إلا أصحاب العقول الراجحة التي لا تخضع للهوى و الشهوة . و في التعبير عن إدراك الحقائق الدينية و المعاني القرآنية و تفويض الأمور إلى الله تعالى فيما يعلم و يجهل بقوله:{ و ما يذكر} إشارة إلى أن المعاني الدينية في فطرة كل إنسان ، و لكن يطمسها الهوى عند بعض الناس فلا يتذكرون ، و تتكشف هذه الفطرة عند الذين لنم تسيطر عليهم الأهواء فيتذكرون ، و الله أعلم بالأنفس .
هذه أية المحكم و المتشابه تكلمنا في معانيها التي تفهم من ألفاظها ، و لكن بعض العلماء يتكلمون في موضوع هذه الآيات المتشابهة ، و قبل أن نخوض في ذكر بعض ما قالوا نقرر أن الذي يستخلص من مصادر الشريعة و مواردها أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها ، و إنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الحكام التكليفية قد انتقل النبي صلى الله عليه و سلم إلى الرفيق الأعلى من غير أن يبينها ، و لا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية ، لأن الله تعالى يقول:{ و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم . . . 44} ( النحل ) و لا شك أن من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية ، و لو تصور أحد أن من آيات القرآن التي تشتمل على أحكام تكليفية لم يبينه النبي صلى الله عليه و سلم لكان معنى ذلك أن الرسول الكريم لم يبلغ رسالة ربه ، هذا مستحيل . لذلك نقول جازمين:إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة ، و إن اشتبه فهمها على بعض العقول لأنه لم يطلع على موضوعه فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها ، بل لاشتباه عند من لا يعلم ، و اشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة .
و أكثر العلماء يقولون إن آيات الصفات التي توهم التشبيه هي من المتشابه كقوله تعالى:{ يد الله فوق أيديهم 10} ( الفتح ) و قوله تعالى:{ كل شيء هالك إلا وجهه . . . 88} ( القصص ) و قوله تعالى:{ الرحمان على العرش استوى 5} ( طه ) فقالوا إن السلف يفوضون فيقولون آمنا به كل من عند ربنا ، و الخلف يؤولون ، فيقولون:إن اليد هي القدرة ، و الاستواء الاستيلاء ، و الوجه هو الذات ، و هكذا يعتبرون تلك الآيات من المتشابهة . و قد وجد من العلماء من لم يعدوا آيات الصفات من المتشابه إنما المتشابه عند أكثرهم هو ما يكون خاصا بالغيب الذي لا نعلمه ، و لم يعلمه لنا ، كحقيقة الروح ، و ما يكون من نعيم اليوم الآخر ، و العقاب و الثواب فيه ، من حيث إنه لا يعرف مآله إلا الله تعالى ، و ما أخبره الله تعالى إن هو إلا تقريب ، ففي الجنة ما لا عين رأت ، و لا أذن سمعت ، و لا خطر على قلب بشر . و هؤلاء الذين نفوا أن آيات الصفات من المتشابه ، لهم ثلاثة مناهج:
المنهاج الأول:منهاج ابن جزم ، فهو يقول إن آيات الصفات لا تشابه فيها ، فهي كلها أسماء للذات العلية ، فاليد كناية عن الذات ، و الوجه كذلك ، و الاستواء فعل للذات العلية . . و هكذا ، و قصر المتشابه على الحروف التي تبدأ بها السور ، و الأقسام التي يقسم بها الله تعالى .
و الثاني:منهاج للغزالي ذكره في بعض كتبه ، و هو "إلجام العوام عن علم الكلام "، و قد ذكر فيه أن بعض هذه الألفاظ التي توهم التشبيه هي استعمال مجازي مشهور ، و ليس تأويلا ، فإنه يقال:وضع الأمير يده على المدينة ، فيفهم كل عربي أن معنى ذلك أنه استولى عليها و سيطر ، و يكون من هذا القبيل:{ يد الله فوق أيديهم 10} ( الفتح ) . فعبارات الغزالي في هذا الكتاب تفيد أن هذه العبارات مجاز عربي مشهور لا يحتاج إلى تأويل ، و لكن يجب بعد هذا الفهم الظاهر التفويض و أن نقول:{ آمنا به كل من عند ربنا} .
المنهاج الثالث:منهاج ابن تيمية ، و هو يرى أن هذه الآيات ظاهرة في معانيها ، فهو يقول:إن لله يدا و لكن ليست كأيدينا ، و وجها و لكن ليس كوجهنا و إن هذه معان حقيقية ، و يقول إن ذلك هو مذهب السلف ، و هو في هذا تابع لطائفة من الحنابلة ادعوا أن ذلك منهاج الإمام أحمد . و لكن رد عليهم ابن الجوزي ، و أنكر أن يكون ذلك مذهب أحمد فقال:"رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، و رأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضى الحس ، فأثبتوا له سبحانه صورة و وجهها زائد على الذات ، و قد أخذوا بالظاهر في الأسماء و الصفات ، و لا دليل لهم في ذلك من النقل و لا من العقل ، و لم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني "ثم يقول:"يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل و اتباع ، و إمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول و هو تحت السياط:كيف أقول ما لم يقل! ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها ، فظاهر اليد الجارحة ، و من قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات ، و ينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل ، و هو العقل ، إنا به عرفنا الله تعالى ، و حكما له بالقدم "ثم يقول:"لا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح ما ليس فيه ".