{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( 8 ) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ( 9 ) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا و أولئك هم وقود النار ( 10 ) كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم و الله شديد العقاب ( 11 ) قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنم و بئس المهاد ( 12 )} .
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه . و قد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم ، فهم يقولون:{ آمنا به كل من عند ربنا} و يقولون أيضا:{ ربنا لا تزغ قلوبنا} و كأنهم إذ يعلنون الإيمان و الإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه و يبقيه بإبعادهم عن الزيغ و الاضطراب في العقيدة .
و قال بعض المفسرين:إن هذا كلام جديد ، و هو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء ، و المعنى على الحالين:ربنا أي يا خالقنا و العليم بنفوسنا و القيوم على أمورنا{ ربنا لا تزغ قلوبنا}:لا تبتلينا بابتلاء و اختبار تزيغ معه قلوبنا ، و تضطرب معه نفوسنا ، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم و المنهاج الحق . و الزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الهواء على النفوس ، فتضطرب فتحيد ، فيكتب الزيغ فتزيغ ، و هذا قول تعالى:{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم . . . 5} ( الصف ) و روت أم سلمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم:"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". فقالت له:يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ فقال:"يا أم سلمة ، إنه ليس آدمي إلا و قلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله ، فمن شاء أقام ، و من شاء أزاغ "{[453]} .
{ و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} هذا بقية الدعاء و الضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم ، و هي من تعليم الله سبحانه و تعالى ، و هذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة ، و قد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان ، و هو أول أبواب الرحمة ، و الأصل لكل رحمة ، فبعد أن علمنا الضراعة بأن لا تميل قلوبنا ، وجهنا لطلب الأثر كذلك و هو الرحمة ، و رحمة الله تفضل و نعمة و إنعام على العبد ، لأنه و ما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصف المالك في ملكه ، و ليس لأحد عند رب العالمين حساب . والرحمة المطلوبة كملة شاملة جامعة ، فتجمع النصر في الدنيا و القرار و الاطمئنان فيها ، و النعيم في الآخرة . و التعبير بقوله تعالى:{ من لدنك} أي من عندك ، و لدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال . و المعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض . و قد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير ، و وصف من أوصافه ، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين:{ إنك أنت الوهاب} في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات ، منها "إن "التي للتوكيد ، و منها تأكيد الضمير بقوله "أنت "و منها القصر ، أي لا يهب أحد سواك ، و ذاك بتعريف الطرفين ، و منها التعبير بصيغة المبالغة ، و هي:الوهاب ، و إنه سبحانه قد انفرد بالرحمة و هبة الرحمة لمن يشاء ، و إن رجمته وسعت كل شيء .