{أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي أصحاب العقول الذين يعيشون مسؤولية العقل في التفكير بكل ما يتصل بالإنسان في مصيره في الدنيا والآخرة ومسؤولياته تجاه الحياة والإنسان .فيتحركون من خلال منطقه الذي يواجه الأمر من موقع الحسابات الدقيقة التي تقارن بين الأشياء ،وتربط النتائج بمقدماتها ،والمسببات بأسبابها ،وينفتح بالإنسان على ما يحقق له الربح والسعادة ويبعده عن الخسارة والشقاء ،ولهذا فإنهم لا يسقطون تحت تأثير الغفلة ،لأنها الحالة التي تبتعد عن واقع الوعي ويعيش الإنسان معها حالة عمى في القلب وغيبوبةٍ في الإحساس ،بحيث ينسى كل الأمور الحيوية المتصلة بمصيره ،بينما يؤكد العقل لهؤلاء العقلاء القوة التي تزيل كل غشاوةٍ عن الوعي وتبعد كل ضباب عن الرؤية ،فينطلقون في وضوح الرؤية التي تجعلهم يذكرون الله قياماً وقعوداً ويخافون عقابه ويرجون ثوابه ،ويتطلعون إلى هداه ،وينتظرون رحمته ،فيقولون{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي عقولنا{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وعرفتنا الإيمان بك وبرسلك ،لا تدخلنا في التجربة الصعبة التي تهتز فيها أفكارنا ،وتضطرب منها مشاعرنا ،وتنحرف بها خطواتنا في داخل أنفسنا ،وفي خارجها ،مما قد يدخل فيه الغرور إلى ذواتنا ،فلا نتوازن في النظر إلى الواقع بمنطق الوضوح في الرؤية الذي يعرف فيه الإنسان حجم فكره ،وطبيعة موقعه ،وخصوصية ذاته ،فإن الغرور الفكري والعلمي والذاتي ،قد يدخل الإنسان إلى متاهات الأفكار والوسائل والأهداف مما لا يلتقي بالحق ولا يقف عند قاعدة الصواب ،لأن الإنسان المغرور في علمه لا يتطلع غالباً إلى وجهة نظر الآخرين في الموضوع الذي يعالجه ولا يصرّ على نفسه ليدقق في الاحتمالات التي تخطر على ذهنه ،فيميل عن الحق من دون أن يشعر ،ويبتعد عن الاستقامة من دون أن يلتفت إلى ذلك .
وقد يخضع الإنسان لتأثيرات الضلال في نفسه من خلال عناصر الإغراء والإغواء أو التخويف والترهيب ،التي تضغط على نفسه وفكره وروحه ،فتؤثر على موقفه وقراره ،فيبتعد عن الحق ،ويضلّ عن طريق الهدى .
وقد تضغط عليه الظروف الموضوعية المرتبطة بالواقع من حوله لتغير له نظرته إلى الأمور بما قد تثيره في نفسه من المبرّرات المتنوعة التي قد تفتح له باباً على الانحراف بحجة أن التغيير في الموقف يخضع للتغيير في المعطيات والمصالح والمفاسد الطارئة بفعل المتغيرات الاجتماعية والسياسية .
وهكذا تتنوع أسباب الزيغ التي تدفع الإنسان إلى الضلال .وفي ضوء ذلك ،فإن الطلب إلى الله في أن لا يزيغ قلوبنا عن خط الهداية بعد التزامنا به ،لا يعني أن الله يفعل ذلك بعباده بشكل مباشر فيجعل المهتدي ضالاً ،بل يعني أن يبعد عنا الظروف التي قد تقودنا إلى ذلك ،ولا يكلفنا التكاليف التي تضعف إرادتنا عن الحركة ،وذلك من خلال لطفه بعباده ورحمته لهم ،فإن اللهبحكمته ولطفه ورحمتهلا يبتلي عباده بالبلاء الذي لا يتحملونه ليسقطوا أمامه ،فهو الذي يشجعهم على السير في خط الهدى ،لأنه مع المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والعمل الصالح ،فيهيىء لهم سبل الثبات على الهدى ،حتى أن البلاء قد يكون حركةً في التجربة الهادية التي تقوى بها إرادتهم ،وتنفتح بها قراراتهم على الآفاق الواسعة للحق ،ولذلك فإنهم يبتهلون إليه ويدعونه: أعطنا يا رب من لطفك ما يسهل لنا سبيل الوصول إلى سعادتنا في القرب منك ،{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} تكفل لنا بها خير الدنيا والآخرة ،{إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} الذي تتوالى فيوضاته وهباته على عباده في أمورهم الخاصة والعامة في الدنيا والآخرة ،فيثبتّهم على إيمانهم الذي يقودهم إلى العمل الصالح لينتهي بهم إلى جنة الرضوان .