المحكم والمتشابه والتأويل
لقد دار جدلٌ كثير حول المراد من كلمات «المحكم » و «المتشابه » و «التأويل » الواردة في الآية الأولى موضوع النظر والتأمل ،كما تعددت وتنوعت الآراء حول معانيها ،الأمر الذي أدخلها دائرة الإجمال .ونحن هنا نريد استيحاء الفكرة العامة للاية من خلال الجوّ الذي يحيط بها والسياق الذي تتحرك فيه .
السياق العام للآية
فقد نلاحظ في ما سبقها من آيات ،أن الحديث انطلق في سياق اعتبار الكتاب الذي أنزل على رسول الله هدىً للناس كغيره من الكتب السابقة عليه ،ما يجعله مبيّناً لكل المفاهيم الأساسية التي ذكرت في التوراة والإنجيل ،لأنه مصدّق لهما في ذلك كله ،ذلك هو طابعه العام في ما أريد به من تغيير المسار الإنساني على صورته .أما في الآيتين اللتين بعدها ،فنلاحظ أن هناك دعاءً ينبع من أعماق الروح التي تعيش الإحساس بالقلق على القلب أن يزيغ في ما يمكن أن يثار أمامه من شبهات في المفاهيم التي يقرّرها الكتاب في ما يقرّره من حقائق العقيدة والحياة ،ومن إشكال في بعض الكلمات التي قد تختلف دلالتها على المعنى الحقيقي ،ما يوجب السير في طريق الضلالة بعد أن انطلقت الخطى في طريق الهدى .
إن الدعاء يبتهل إلى الله سبحانه أن يهب للإنسان الرحمة التي تمثل انفتاح الإنسان على الحق والفهم الواعي البعيد عن تعقيدات الذات عندما تحاول أن تنحرف به عن الاتجاه الطبيعي في وعي النصوص ،لأنها قد تعمل على أن تحمّل اللفظ ما لا يتحمل من المعنى ،وتضعه في جوٍّ غريب عن الجو الذي يتحرك فيه ،فيختلف الفهم حسب اختلاف ذلك ويبتعد كثيراً عن معناه .وبذلك كان لا بد من رحمة الله التي تعطي الإنسان شعوراً بالمسؤولية في مجال المعرفة ،كما هي المسؤولية في مجال العمل ،حيث تتفايض في القلب كل الأفكار الطيبة البسيطة التي تواجه الحقيقة ببساطتها من موقع العفوية لا من موقع التعقيد والأفكار المسبّقة الناشئة من أوضاع وظروف بعيدة عن إطار اللفظ والمعنى .
تحرير فهم القرآن من الأفكار المسبقة
إننا نستلهم من خلال هذا السياق الذي يحيط بالآية ،أنَّ هناك خطّاً أساسيّاً يجب اتباعه في طريقة الاستهداء بالقرآن إلى المعرفة الحقّة ،وهو خط المسؤولية الفكرية والروحية التي تواجه القرآن ،كما لو لم يكن هناك فكر قبله ،لتفهمه بعيداً عن ضوضاء الأفكار السابقة .وبهذا ،نستطيع أن نضع الآية في هذا الجوّ .
في القرآن نموذجان من الآيات
فهي تتحدث عن أن الكتاب يشتمل على نموذجين من الآيات ،الآيات المحكمة التي تمثل الوضوح في اللفظ والمعنى بحيث لا تدع مجالاً للشك والاحتمال ،والآيات المتشابهة التي تمثل نوعاً من أنواع الغموض فيما يمكن أن تحمل عليه ألفاظها ،لأنها تحتمل بعض المعاني الواردة على خلاف ما وضعت له لغةً ،ما يجعل القضيّة مترددة بين أكثر من مفهوم ،وذلك قد يكون بملاحظة طبيعة اللفظ ،أو بملاحظة طبيعة المعنى .
نموذج القلوب الزائغة
ثم تثير أمامنا قصة أولئك الذين في قلوبهم انحرافٌ عن خط الهدى ،فهم لا يقرأون الكتاب ليتدبروه وليهتدوا به فيرجعوا متشابهه إلى محكمه ،حيث يكون الإحكام هناك دليلاً على تفسير التشابه هنا ،بل يحاولون أن يقرأوه قراءة الإنسان المعقّد تجاه الرسالة والرسول والناس الذين آمنوا بهما ،فهم يعملون على إيجاد الارتباك في المفاهيم ،بالانحراف بها عن مدلولها الحقيقي ،لإفساح المجال لفتنة المسلمين عن دينهم باسم الدين .ولذلك كانوا يتبعون المتشابه ،لا اتّباع العمل والهدى ،بل اتباع الفرصة السانحة لتنفيذ المخطط الضال ،لأنه هو الذي يمكنهم من الفتنة بما يفتحه أمامهم من مجالات التفسير الذي لا تسمح به الآيات المحكمة لما تشتمل عليه من الوضوح .
ولعلّ ما تقدّم من ذكر أسباب النزول ،بمناسبة الكلام على الآيات1 6 ،يوضح الصورة ،فقد نستوحي من القصة ،أن هؤلاء كانوا يحاولون أن يختاروا من آيات القرآن ،الآيات التي تتحدث عن عيسى بأنه روح الله ،وبأنه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم ،ونحو ذلك ،مما يمكن أن يترك لهم مجالاً بأن يُلبِسوا الأمر على البسطاء في ما تعنيه هذه الكلمات من وجود جزءٍ من الألوهية في ذاته أو ما أشبه هذا من التأويلات والتعليلات .وهذا هو شأن كل صاحب فكرة أو عقيدة ،فإنه يحاول أن يجر الآخرين إليه من خلال الاستفادة من بعض الكلمات التي تسمح بالتفسير الفضفاض الذي يقف الإنسان معه عند حدٍّ معيّن واضح ،لتضليلهم عن الحق ،باسم آيات الحق .وهذا هو الذي أوجب الاختلاف في المذاهب الإسلامية في الجبر والتفويض والتجسيم ورؤية الله وغيرها من المفاهيم التي وقعت مجالاً للنزاع بين المسلمين ،فحاول كل فريق أن يستفيد من بعض الآيات القرآنية التي قد تفسر على هذا النحو أو ذاك في ما يلائم اللفظ من تفسير .وهذا ما عبر عنه الإمام علي( ع ) في بعض كلامه: «لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّالٌ ذو وجوه » .
نموذج الراسخين في العلم
أمّا «الراسخون في العلم » ،هؤلاء الذين أعطاهم الله الرؤية الواضحة للأشياء ،فإن شأنهم شأن العلماء الذين لا يصدرون حكماً في موضوعٍ إلا بعد التدبر والتأمل والبحث والتدقيق في جميع وجوهه ،الأمر الذي يجعلهم يقارنون بين مفهوم وآخر ،وبين نصٍّ هنا ونصّ هناك ،مما قد يوحي بالتنافي والتنافر ،فيحاولون الجمع بينهما من خلال اكتشاف الحقائق الأساسية الواضحة ،وإرجاع كل الأمور والنصوص الأخرى إليها في عملية تفسير للفظ على الأسس الفنية للكلام ،بحيث لا تبتعد عن القواعد العربية ،ولا تنحرف عن المفهوم السائد في فهم المعنى من اللفظ ،وبذلك لا يكون التأويل حملاً للفظ على خلاف ظاهره بالطريقة التي تحوّل الكلام إلى ما يشبه الأدب الرمزي الذي لا يكون اللفظ فيه قالباً للمعنى ،بل يكون التأويل إرجاعاً للفظ إلى معناه ،في ما يزعمه هؤلاء من تأويلات الباطل عندما يرجعونه إلى معانيه الباطلة ،أو في ما توحي به الآيات الأخرى الواضحة الدلالة في ما تقرره من حقائق العقيدة والحياة ،وما يكتشفه «الراسخون في العلم » من معناه الذي علّمهم الله إياه .وبهذا يقترب من معنى التفسير الذي يضع اللفظ في موقعه من حيث دلالته على المعنى الذي لا يختلف مع المعنى الآخر الحقيقي .
التأويل ليس محصوراً بالله فقط
ونستطيع من خلال ذلك أن نعرف عطف كلمة «الراسخون في العلم » ،على كلمة «الله » ،خلافاً لمن قال بأن الواو استئنافية واعتبار كلمة «الراسخون » بداية لجملة جديدة مفصولةٍ عن الجملة الأولى ،مع التزامه بأنَّ حصر علم التأويل بالله لا يعني عدم مشاركة الراسخين له في ذلك من خلال تعليمهم إيّاه من عنده ،تماماً كما هو علم الغيب الذي اختُص به الله سبحانه ولكنه أعطاه لمن ارتضى من رسول في ما خصّه به من علم .
إننا نعتقد أن ورود كلمة «الراسخين في العلم » بالإضافة إلى جوّ الآية يوحي بما قلناه ،وذلك لأن هذه الصفة لا دور لها إذا لم يكن للراسخين في العلم من دور إلا الإعلان بأن المحكم والمتشابه من عند الله تعالى ،بل هو منطلق من خلال صفة الإيمان التي تعني التسليم بكل ما جاء به الله .أمّا إذا كانت معطوفة على كلمة الله بحيث تدلّ على أنهم يعلمون تأويل القرآن في ما تشابه من آياته ،فإنها توحي بأن رسوخهم في العلم جعلهم يتدبرون القرآن فيفهمون التناسب بين آياته في ما تمثله من حقائق العقيدة والحياة ،وبذلك لا يجدون في آية واحدة منها ما يبتعد عن المعنى الذي توحيه الأخرى ،وبهذا يكون للإيمان بأنهاجميعاًمن عند الله ،معنى مناسب للتدقيق في معرفة طبيعة المعنى هنا وهناك .
إن هذا الإيمان ،إذا لم يكن ممثلاً لقناعة صاحبه ،فلا يفرض ضرورةً للجمع بين النصوص ،فيمكن في حالة اختلاف المصدر ،أن يكون المعنى هنا يختلف عن المعنى هناك .هذا من جهة ،ومن جهةٍ أخرى ،فإن القرآن قد جاء هدىً للناس ،يفتح قلوبهم على المعرفة الحقّة التي يريدها الله للحياة ،فلا بد من أن يكونبطبيعتههادياً للوصول إلى الحقيقة ،بحيث يكون أساساً للحجة والبرهان على الحق من دون حاجة إلى وسائل غير عاديّة .وهذا مما لا يتناسب مع اختصاص العلم بالله ليكون حاله حال العلم بالغيب الذي لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه إلا من قِبل الله ،فلا يملك أية وسيلةٍ ذاتية إليه .وهذا لا يتناسب مع طبيعة القرآن ودوره في هداية الناس إلى التصور الصحيح في ما يريد الله لهم أن يؤمنوا به أو يرفضوه .وربما كان في الدعاء الذي يعيش في أعماق هؤلاء الراسخين في العلم ،دلالة على ذلك ،فإنه يوحي بالحالة النفسية التي يعيشها العالِم الذي يعمل على اكتشاف حقيقةٍ مقدّسة تتصل بوحي الله ،فهو يشعر بحركة الفكر من خلال المسؤولية في جوٍّ مليء بالرهبة والخوف من الوقوع في الخطأ من حيث لا يريد ،انطلاقاً من حالة ذاتية لا شعورية تقوده إلى الخطأ من موقع الصواب ،فهوفي هذه الحالةيبتهل إلى الله أن يعصمه من حالات الزيغ والانحراف ،بأن يلهمه الفهم الواعي المسؤول ويهب له الرحمة التي تفتح قلبه على الحق والخير وتجنبه الوقوع في قبضة الشر والباطل .ثم يتصاعد الشعور في نفسه أمام المشهد الرهيب الذي يجمع الله فيه الناس ليوم لا ريب فيه ،فإن الله قد وعد عباده بذلك وهو لا يخلف الميعاد .
خلاصة واستنتاج
ومن خلال هذا العرض ،نستطيع أن نقرر بأن الإحكام في الآية كما هو في كل شيء ،أن يكون هناك إتقان لا يسمح بأيّة ثغرة تسيء إلى تكامل الشيء وتوازنه .ومن الطبيعي أن إحكام كل شيء بحسبه .أمّا المصاديق فهي خاضعة للإحصاءات الدقيقة التي يكتشفها الفهم الواعي السليم .وأما التشابه ،فإنه يمثل وجود حالةٍ في اللفظ أو في المعنى توحي بحالتين متماثلتين ،بحيث لا يكون هناك خصائص واضحة توضح طبيعة الصورة ،ما يثير في الجو إمكانية الالتباس والتردد بين الأمرين بالنحو الذي يسمح بالاستغلال لمن يريد ذلك لمرضٍ في قلبه أو هوىً في نفسه .وأمّا التأويل ،فإنه يعني إرجاع الشيء إلى مصدره وحقيقته ،لكن لا على نحو التفسير الباطني الرمزي ،بل على نحو التفسير الذي يتناسب فيه اللفظ والمعنى بالمقارنة مع نص آخر واضح الدلالة على المطلوب .
وربما أطلق التأويل والباطن على استيحاء المعنى الذي نزلت الآية فيه إلى أجواء شاملة يمتد بها إلى كل ما يماثله في حركة المستقبل في حقائق الحياة .وبهذا كثرت الأحاديث عن هذا الموضوع بأسلوب أن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر والليل و النهار .
المتشابه والمجمل
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ} يا محمد{الْكِتَابِ} القرآن الذي أراده الله هدى للناس في انفتاح آياته على آفاق المعرفة وحقائق العقيدة ودقائق الأشياء ،وفي تنوع أساليب دلالاتها على الفكرة من خلال خصائص اللغة العربية التي تتنوع دلالات ألفاظها على المعاني من حيث الوضوح والخفاء تبعاً لحاجات التعبير التي تختلف فيها الحقيقة عن المجاز ،وتتنوع فيها عناوين الاستعارة والكناية في الأساليب البلاغية التي تمنح الكلام رونقاً وحلاوة وحركة فنيّة ،قد تتعب الفكر في استجلاء المعنى ،ولكنها تبتعد به عن متاهات الاحتمالات ،لأنها ترتكز على الحقيقة الواضحة في إرجاعها إلى معانيها الأصيلة في الحقائق القرآنية الواضحة .{مِنْهُ} أي من الكتاب ،{آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} واضحات الدلالة على المعاني ،فلا مجال فيها لأي لبسٍ في التفسير ولأيّ غموض في المعنى أو أيّ احتمال بعيد .
{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي القاعدة التي ترجع اليها كل الآيات في معناها ،باعتبارها تمثل الحقيقة الحاسمة التي لا ريب فيها ولا التباس يمكن لأصحاب القلوب الزائغة استغلالها لحرف الناس عن جادة الحق والصواب .فعند هذه الآيات الأصل تلتقي كل حقائق المعرفة ،واليها ترجع كل الاحتمالات .{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لا تملك من الوضوح في الدلالة على معناها ما تملكه الآيات المحكمات ،فقد يتردد معناها بين نوعين من المعاني من حيث تبادر المعنى الحقيقي من اللفظ عند إطلاقه ،فيخيّل للسامع أنه المراد منه ،ومن حيث وجود بعض القرائن الموحية بالمعنى المجازي أو الكنائي ،وذلك كما في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ طه:5] ،فإن كلمة الاستواء على العرش قد توحي بالجلوس عليه والاستقرار فوقه بالمعنى المادي بما يدل على التجسيم للذات الإلهية ،تماماً كبقية الأجسام التي يعرض عليها القيام والقعود .
وقد يكون المراد به الاستواء المعنوي بمعنى السيطرة والهيمنة على الملك من حيث استعارته كلمة العرش للملك وكلمة الاستواء للسيطرة ،فيدور الأمر بينهما ،فنرجع إلى الآية المحكمة التي لا مجال فيها لأيّ تأويل{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} ( الشورى:11 ) ،التي تنفي عن اللهبكل وضوح وصراحةكل مماثل في الذات ،فتنفي عنه مماثلته للمخلوقات في الجسد ،فيتعين المعنى الثاني الذي يبدو واضحاً محكماً بلحاظ هذه الآية .
وهكذا نلتقي بقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [ القيامة:2223] ،فإنها توحيفي البدايةمن خلال معنى الإبصار المنفتح على الله بشكل حسيّ تماماً كما لو كان جسماً يُرى ،لأن معنى اللفظبحسب الوضعهو ذلك ،ولكننا إذا قارناه بقوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} [ الأنعام:103] ،التي تدل دلالة واضحة على امتناع إدراك الأبصار له ،كانت مفسرة لتلك الآية بأن المراد بالنظر إلى الله ،النظر العقلي أو الروحي ،لا الحسي ،أو النظر إليه من خلال النظر إلى مواقع عظمته ،فيرتفع اللبس وتتضح الصورة كأيّ لفظ تحيط به القرينة اللفظية أو العقلية على إرادة خلاف ظاهره ،ليتخذ اللفظ لنفسه ظهوراً ثانوياً ينسبق معناه إلى الذهن ،تماماً كما هو المعنى الحقيقي .
وهكذا نتمثل المسألة في الآية المنسوخة الظاهرة في امتداد الحكم إلى آخر الزمان كحكم حاسمٍ شامل لكل امتدادات الزمن ،فإذا جاءت الآية الناسخة ،كانت دليلاً على إرادة الحكم المحدود من تلك الآية ،ولكن الله أخر تحديدها إلى زمن نزول الآية الأخرى ،بحيث تؤدي المقارنة بينهما إلى وضوح الدلالة ،فتتحول الآية المتشابهة في ذاتها إلى آية محكمة بلحاظ الآية المحكمة الأخرى .
معنى التشابه
وفي ضوء هذا ،نعرف أن التشابه لا يعني المجمل الذي لا يملك أيّ ظهور للفظ في المعنى ،كالألفاظ المشتركة وضعاً ،أو المحاطة بقرائن مجملة توجب إجمالها ،بل المراد به اللفظ الظاهر في معنى معين في الظهور الأولي ،الذي يراد به معنى آخر ببركة القرينة الواضحة التي تمنحه ظهوراً ثانوياً ،بحيث لا يشك السامع أو القارىء في مدلوله الحقيقي بعد ذلك ،تماماً كما هي قرينة المجاز التي تلحق الكلام فتؤدي إلى ظهوره في المعنى المجازي الجديد .
المراد من إحكام آيات القران كله
وعلى هذا الأساس ،نفهم المراد من قوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياته ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [ هود: 1] ،فقد وصف الله القرآن كله بأنه الكتاب المحكم في جميع آياته ،فيخيّل للقارىء أو السامع أن هذا مناف للآية المذكورة في عرضنا هذا ،لأنها تقسم الكتاب إلى قسمين{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فإن المراد من إحكام آيات القرآن كله ،هو مجموع الآيات التي لا تختلف مداليلها ،بل تتكامل عند ضمّ بعضها إلى بعض ،فيكون بعضها مفسراً لبعضها الآخر وشارحاً له ومبيناً للمعنى الواقعي الذي أريد منه ما ورد على خلاف ظاهر اللفظ في معناه الموضوع له ،ما يؤدي به إلى الوضوح في النتائج الحاسمة في نهاية المطاف ،فيكون القرآن كله محكماً بطريقة مباشرةٍ في بعض آياته ،وبطريقةٍ غير مباشرةٍ في البعض الآخر .
معنى قوله تعالى: «كتاباً متشابهاً »
وبهذا يتبين معنى قوله تعالىفي وصف الكتاب في آية أخرىبأنه «متشابه » وذلك قوله تعالى:{كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [ الزمر:23] ،فإن المراد بالمتشابه هنا ،هو الكتاب المنسّق في آياته الذي يشبه بعضه بعضاً في تبيان الحقائق ،وتركيز المعارف ،ودقة المعاني ،وتناسق الآيات ،وبلاغة الأسلوب ،بحيث يفسّر بعضه بعضاً ويكمل بعضه بعضاً .
آيات القرآن تتكامل فيما بينها
ولولا هذه الملاحظة المذكورة التي ترجع المتشابه إلى المحكم ،وتجعل من المحكم قاعدةً فكريةً تفسيرية للمتشابه ،لكان القرآن في بعض آياته مجملاً غامضاً لا مجال للاحتجاج به ،أو للتدبر في آياته ،فكيف يكون نوراً وهدىً وبياناً وتبياناً لكل شيء ؟!
ولعل الدراسة الواعية الدقيقة للقرآن في كل موضوعاته الفكرية والعقيدية والتشريعية ،ومفاهيمه العامة المنفتحة على حقائق الكون والحياة والإنسان وعالم الغيب والشهادة ،توحي للقارىء الباحث بأن آيات القرآن تتكامل في بناء الفكر الإسلامي ،فإذا كانت هذه الآية توحي بمعنى في بادىء الأمر ،فإن الآية الأخرى تفسرها لتلتقي به في معنىً واحدٍ ،وإذا جاء الحكم الشرعي في بعضها عاماً أو مطلقاً ،فإننا نلتقي في بعضها الآخر بما يخصصه أو يقيده ،فلا يجد الإنسان فيه اختلافاً بين أفكاره أو تنافراً بين آياته أو غموضاً في معانيه ،بل هو الوضوح الذي يستمد طبيعته من طبيعة الألفاظ في معانيها الموضوعة ،ومن عمق التدبر في أغوارها العميقة ،ومن المقارنة الموضوعية بينها في عملية التكامل في حركة الأفكار في بنيتها الأساسية ،وهذا هو الذي أراده الله من عباده في الأمر بالتدبر للقرآن في قوله تعالى:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [ النساء:82] ،فإن إدراك هذه الحقيقة ،تفرض على الإنسان أن يدرس القرآن كلهفي جميع آياته وموضوعاتهليأخذ الفكرة الكاملة ،وأن يتعمق في دراسته بعيداً عن القراءة السطحية ،ليعرف كيف يجعل الآية هنا ،مفسِّرة للآية هناك ،أو يأخذ من هذه الآية جانباً من المعنى ويأخذ من الآخرى جانباً آخر ،وذلك من خلال الثقافة الواسعة العميقة في اللغة العربية التي تربي له ذوقه اللغوي ،بحيث يفهم المعاني من الألفاظ من خلال أسرار اللغة في دقائقها وتنوعاتها ،ومن خلال الذهنية المنفتحة على حقائق الكون والحياة والإنسان ؛الأمر الذي يملك معه فهم القرآن في الجانب اللغوي والفكري والعملي معاً في كل آياته المحكمة والمتشابهة .
المنحرفون يفسرون القرآن بأهوائهم
وهذا ما يحمي الإنسان من الانحراف في وعي الأسلوب القرآني في الفهم والتفسير ،فيبتعد به عن الطريقة التي يتأوّل بها اللفظ الدال على معنى في غير الاتجاه الذي انطلق فيه ،من غير دليل قرآني يوحي به أو يدل عليه ،لأنه يريد أن يجعل القرآن حجةً على ما يفكر به أو ينتمي إليه ،فيستغلّ قابلية اللفظ له ،فيحمله عليه ،في الوقت الذي لا يستطيع القارىء الواعي أن يفهم منه ذلك بطريقة طبيعية .{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وميلٌ عن خط التوازن في الفكر والاستقامة في الخط ،من هؤلاء الذين يعيشون الارتباك الفكري والقلق الروحي والضياع العملي ،فلا يلجأون إلى ركن وثيق من الحجة القاطعة الواضحة ،ولا ينطلقون من فكرٍ عميق واسع ،ومن خط مستقيم واضح ،فهم لا يتحركون من موقع إيمانهم بالحقيقة الواقعية التي تناديهم في إيحاءاتها الفكرية الإنسانية للبحث عنها والسعي إليها ،بل يتحركون من خلال تلبية حاجاتهم ،وتحريك أطماعهم وتوجيه طموحاتهم نحو الأهداف الخبيثة ،فيبحثون عن أيّ مبرر للحصول على ما يريدون ،بعيداً عن الشروط الأخلاقية لذلك ،لأن المهمّ لديهم أن يقدّموا بين أيديهم أيّة حجةٍ في الصورة الظاهرة حتى لو كانت غير مقنعة ،لأن قناعة الآخرين ليست الهدف لهم ،بل الهدف الأساس هو تضليلهم وتوجيههم نحو الانحراف عن الخط المستقيم ،من أجل إرباك الواقع الإنساني وإبعاده عن الانسجام مع رسالات الأنبياء وحركات المخلصين ،ولهذا ،فإنهم يحاولون أن يلعبوا على الألفاظ ويتحركوا بأساليب الدسّ والتشويه والتهويل ضد الرسل والرسالات ،فيلجأونفي تبرير مواقفهم وأوضاعهمإلى المتشابهات التي يمكن أن تثير الجدل بين الناس لقابليتها للتفسير والتأويل .
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} للإيحاء بأنهم يرتكزون على القرآن في ما يطلقونه من أفكار وما يخططون له من برامج ،وما يثيرونه من قضايا في الساحة الإنسانية العامة ،لإخفاء نياتهم الخبيثة ضد الإسلام والمسلمين{ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ} التي يحركونها في الجانب الفكري لفتنة المؤمنين عن دينهم الحق لينحرفوا عن خطه المستقيم ،ما قد يؤدي إلى الفتنة الاجتماعية بينهم إذا اختلفوا في فهمهم للإسلام من خلال ذلك فيتفرقون شيعاً وأحزاباً ومذاهب وطوائف في خط العصبية التي تثير الانفعال ،وتغذي الأحقاد ،وتقود إلى القتال{وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ} وإرجاعه إلى المصادر التي يرتكزون عليها في أفكارهم ومعارفهم في استغلالٍ للغموض البدوي في الآيات المتشابهة ،كما فعل اليهود في محاولاتهم الدخول على النص القرآني بإثارة التفاصيل في ما أجمله القرآن ،وتوجيه التفسير ،في ما يحتاج منه إلى التفسير ،نحو العقائد التي يعتقدونها .وقد تركت هذه المداخلات اليهودية الكثير من الإرباكات في التصور الإسلامي للقرآن ممن لم يملكوا المعرفة الواسعة لاكتشاف مواقع الخلل الفكري فيها .
وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر( ع ) ما مضمونه: أن نفراً من اليهود ومعهم حيي بن أخطب وأخوه ،جاءوا إلى رسول الله( ص ) واحتجوا بالحروف المقطعة «ألم » وقالوا: بموجب حساب الحروف الأبجدية ،فإن الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد ،واللام تساوي ( 30 ) والميم تساوي ( 40 ) ،وبهذه ،فإن فترة بقاء أمتك لا تزيد على إحدى وسبعين سنة ،فقال لهم رسول اللهعلى أساس الحديثما معناه: لماذا حسبتم{ألم} وحدها ؟ألم تروا أن في القرآن{ألمص} و{ألر} ونظائرها من الحروف المقطعة ،فإذا كانت هذه الحروف المقطعة تدل على مدة بقاء أمتي ،فلماذا لا تحسبونها كلها ؟وعندئذٍ نزلت هذه الآية .
فإذا صحت هذه الرواية ،فإننا نستفيد منها أن هؤلاء يحاولون النفاذ من بعض المواقع القابلة للتأويل إلى إيجاد بعض الأجواء النفسية اليائسة ،ليعيش النبي والمسلمون معه الإحباط في نظرتهم إلى مستقبل الدين وامتداده في الزمن ،كما أنهم يحاولون في مواقع أخرى أن يفرضوا مفاهيمهم وأقاصيصهم وشرائعهم على الذهنية الإسلامية ،من خلال محاولتهم إرجاع بعض الآيات القرآنية إلى المصادر التي يؤمنون بها ويرتكزون في عقائدهم الدينية عليها .
وهذا ما نلاحظه في المحاولات التي حاول فيها نصارى نجرانحسب الرواية السابقةالاستفادة من «كلمة الله وروحه » الواردة في القرآن في الحديث عن السيد المسيح ،للاحتجاج على بعض عقائدهم في «التثليث » و «ألوهية المسيح » من دون ملاحظة للآيات الأخرى المصرحة بنفي الألوهية والتثليث معاً واعتبار الاعتقاد بهما كفراً مرفوضاً في الإيمان الإسلامي ،وهذا ما يحاوله البعض من علماء النصارى من اعتبار الإسلام بدعة نصرانية ،وتأويل النصوص القرآنية لمصلحة العقيدة النصرانية ،للإيحاء بأن محمداً( ص ) كان نصرانياً مبتدعاً يستوحي الإنجيل في قرآنه بطريقة معينةٍ لا تبتعد عن العقيدة النصرانية الأمّ ،وذلك بالتلاعب على الألفاظ بتفسيرها بطريقة معينة أو تحويرها لشكل معين .
وهذا ما نلاحظه في المداخلات التي يقوم بها العلمانيون المسلمون الذين يحاولون إخضاع القرآن للكثير من أفكارهم العلمانية وللخطوط الفكرية الغربية الحديثة بما يبرر الكثير من التشريعات والمفاهيم والخطوط الفكرية والعملية .
تساؤلات حول الموقف من التأويل
وتبقى أمامنا مسألة حيوية مهمّة في هذا النص القرآني في كلمة «التأويل » ،فقد وردت في هذه الفقرة بطريقةٍ سلبيةٍ من خلال ما يحاوله الذين في قلوبهم زيغ من تأويل المتشابه لمصلحة أفكارهم المضادة للإسلام ،كما وردت بطريقة إيجابية في الفقرة التالية{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ما يوحي بأن لهذه الآيات تأويلاً يكشف حقائقها الغامضة .كما وردت هذه الكلمة في قصة موسى( ع ) مع صاحبه الذي يقال إنه «الخضر » في حديثه معه حول ما استغربه موسى( ع )ِ واحتج عليه من أفعال صاحبه في السفينة التي خرقها ،والغلام الذي قتله والجدار الذي أقامه من دون أن يأخذ عليه عوضاً ،فقد قال لهتفسيراً لذلك{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [ الكهف: 78] .وقال لهبعد فراغه من حديثه معه{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [ الكهف:82] ،وقد وردت في قصة يوسف( ع ) مع أبيه يعقوب{يأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا} [ يوسف: 100] ،وهي إشارة إلى رؤياه في بداية القصة ،وذلك قوله تعالى:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبيهِ يأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [ يوسف:4] .
وهكذا نلاحظ حديثه مع صاحبي السجن عندما طلبا منه تأويل رؤياهما ،وحديث الملكعزيز مصرعن تأويل رؤياه ،وتذكر الذي نجا من السجن ليوسف ومجيئه ليطلب منه تأويل رؤيا الملك التي فتحت لهمن خلال تأويلهالباب إلى حكم مصر ،وقد تكررت الآيات في الحديث عن هذا العلمتأويل الأحلامالذي أطلق عليه تأويل الأحاديث ،مما وهبه الله ليوسف في قوله تعالى:{وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ} [ يوسف:6] ،وقوله تعالى:{وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} [ يوسف:21] ،وقوله تعالى:{وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} [ يوسف: 101] .
وقد وردت الكلمة في الحديث عن يوم القيامة في قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [ يونس:39] وقوله تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [ الأعراف:53] .
المراد من كلمة «التأويل »
ما هو المراد من هذه الكلمة ؟
هل هناك معنى خفيّ باطنيّ يختفي في داخلها ليكون الاتجاه في تفسيرها بالحديث عن المعنى الذي قد يعبر عنه في بعض الأحاديث المأثورة ب «بطن القرآن » و «بطونه » من خلال ما قد يُتحدث عنه من وجود أكثر من معنى للكلمة يمثل أكثر من بطن ،ما قد يتيح الفرصة لكثير من الاحتمالات والمعاني أن تأخذ موقعها في الكلمة القرآنية من خلال ذلك ،إمّا من خلال أنها لوازم معنى اللفظ بشكل تراتبي بحيث يكون للّفظ معنى مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا ،وإما من خلال أنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره .فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته لنفسه ،كما أنك إذا قلت أسقني ،فلا تطلب بذلك إلا السقي ،وهو بعينه طلب الإدراك ،وطلبٌ لرفع الحاجة الوجودية ،وطلب للكمال الوجودي ،وليست هناك أربعة مطالب وأوامر ،بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي بعضها في باطن بعض .الظاهر أن كل هذه النصوص القرآنية ترجع بالكلمة إلى معناها اللغوي الأصيل وهو «الرجوع » ،لأنها مأخوذة من «الأول » ،أي الرجوع إلى الأصل ،وذلك بإرجاع الكلمات والأحداث والأشياء إلى أصولها التي انطلقت منها في الواقع مما يتمثل في الحاضر أو في المستقبل .
فقد يتكلم الإنسان بكلمةٍ تنطويفي مضمونهاعلى أسرار وخفايا معينة في خلفياتها وأهدافها ،فيكون الحديث عن ذلك كله تأويلاً من خلال إعادة المعنى إلى نصابه في الوجدان أو في حركة الواقع .ولذلك فإنه يصح السؤال لمن قد يستنكر الكلمة: ما هو تأويل كلامك ،في التعبير عما يمكن أن يختزنه من خلفيات وأسرارٍ خفيةٍ في النفس أو في الواقع .
وقد يقوم الإنسان بعمل معين كما في تجربة صاحب موسى معه ،فيحتاج إلى تبريره وتفسيره من خلال السرّ الذي يكمن في خلفياته ،أو يرى رؤيا لا يعرف مغزاها أو نتائجها ،فيكون التعبير التفسيري حديثاً عما ينتظر صاحبها من أحداث مستقبلية تتصل بحياته أو حياة الآخرين أو يكون الواقع المستقبلي في تجسيده للصورة الرؤيوية تأويلاً لذلك .
وهكذا يتحدث القرآن عن أحداث يوم القيامة التي بلّغها الرسل للناس فأنكروها ليرى الناس تأويلها من خلال الواقع الذي يطابقها ويوحي بها ،وهو الأصل الواقعي الذي انطلق الإخبار منه في مستقبل أمرهم عندما يقفون في ساحة القيامة ليعرفوا صدق الرسل في ما أخبروا به أو بلغوه من الحديث عن الله واليوم الآخر وعن كل تفاصيل العقيدة .وهكذا نجد تأويل كل شيء بحسبه مما يمتلك الآخذون به والمتحدثون عنه معرفته تبعاً لما يعلمونه من أصول الأشياء ومصادرها ،فقد يختزن المستقبل بعضها مما لا يملك معرفته إلا الله ،أو ممن عرفهم الله سرّها إلهاماً أو وحياً أو من خلال ما عرّفهم من علامات الأحداث وأسبابها وخلفياتها أو مما أمكنهم الاطلاع عليه بوسائلهم الخاصة ،ومنه الثقافة العملية الممتدة في عمق الأمور وخلفيات القضايا وأسرار النفس الإنسانية .
وفي ضوء ذلك ،يكون المقصود من تأويل هؤلاء الذين في قلوبهم مرض ،هو إرجاع الأمور إلى غير حقيقتها ،وتحويلها عن مصادرها الحقيقية في النفس وفي الواقع ،وتحريف النص عن مساره الطبيعي في الإنسان والحياة .
وبما ذكرناه من تفسير التأويل ،يتضح صحة ما أشرنا إليه سابقاً من أن ( الواو ) في قوله تعالى:{وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} للعطفكما هو الأصل فيهالا للاستئناف كما ذهب إليه جماعة من الصحابة كأبي بن كعب وعائشة وابن عمر ،حيث كان رأيهم الوقوف على لفظ الجلالة ،وأما «الراسخون في العلم » فكلام مستأنف ،{يقولون آمنّا به} ،لأنه تعالى وصفهم بالتسليم المطلق لله تعالى ،والعارف بالشيء لا يعبر عنه بالتسليم المطلق أو المحض .
وقد جاء في رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله( ص ) قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ،ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً ،فما عرفتم به فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به » ما قد يوحي بأن المتشابه مما لا يفهمه الناس ،فقد استأثر الله بعلمه .
وقفة مع صاحب الميزان
وقد وافقهم في هذا الرأي صاحب تفسير الميزان ،الذي يرى أن المعنىفي الآية: «أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه: آمنّا به كلّ من عند ربنا ،وإنما اختلفا لاختلافهم ،من جهة زيغ القلب ورسوخ العلم » .
ولكننا نلاحظ على كلامه ،بالإضافة إلى ما قدمناه في صدر تفسير الآية ،أن الإشكال على حديثه عن سياق الآية جاء على تقسيم الناس من الكتاب إلى جماعةٍ تتبع المتشابه لاستغلاله في غير الحق ،من خلال زيغ قلوبهم وانحرافهم عن خط الاستقامة ،وجماعةٍ ثابتةٍ على اتّباع المحكم والإتيان بالمتشابه لرسوخٍ في علمهم ،ويستفاد من الآيةكما ذكرنا ذلكأن القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم ،والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ،ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك .
ولكنه لا يمانع من أن الراسخين في العلم قد يعلمون معنى المتشابه على طريقة الاستثناء من القاعدة ،فإن «العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ،ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه ،كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه ،كما في قوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [ الجن:26 27] ،ولا ينافيه أيضاً كون المستثنى «الراسخون في العلم » بعينهم ،إذ لا منافاة بين أن تدلّ هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم ،وهو الوقوف عند الشبهة والتسليم في مقابل الزائغين قلباً ،وبين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته » .
وخلاصة الإشكال ،أن السياقفي هذه الآيةيتحرك في دائرة الحديث عن الكتاب وانقسام الناس حوله ، كما ذكرولكن الظاهر أنهافي مقام بيان الموقف منهتؤكد أن هناك من لا يؤمن بالكتاب ويحاول إضلال الناس البسطاء باستغلال المتشابه من أجل فتنتهم عن دينهم وتأويله لمصلحة عقائدهم الباطلة من دون أن يملكوا علم ذلك ،لأنهم لم ينفتحوا عليه انفتاح المؤمن على كتابه المقدس ليتدبروا آياته ويرجعوا بها إلى معانيها في الواقع من خلال مصادر العلم لديهم ،ومنها وحي الله وإلهامه في تفسير آياته ،فهم لا يجدون أية ضرورةٍ أو أيّ حافزٍ لذلك ،{وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فإنهم انطلقوا في إيمانهم من خلال معرفتهم بالله وبكتابه ،ولذلك فإنهم يواجهون المتشابه من موقع إيمانهم بأن الكتاب من عند الله ،في محكمه ومتشابهه ،فلا تختلف آياته ،ولا تتنافر معانيه ،ما يجعل بعضه يفسر البعض الآخر .ولذلك فإنهم يستخدمون علمهم من أجل أن يؤكدوا إيمانهم وإيمان الناس به ،فيعلنونه في موقع حاسم لا مجال للشك فيه ،ليقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا الذي جعل المحكم ،الذي «هو أم الكتاب » ومصدره ومرجعه ،دليلاً على المتشابه ،وجعلهما معاً نوراً وهدى للناس ،فليست مسألة تسليمٍ إيمانيّ مجرّدٍ ،بل هو تسليمٌ عقليّ واع في الإيمان ،ولذلك ضمّ المحكم إلى المتشابه ،مع أن الإيمان به كان منطلقاً من حالة وعي لا من حالة تسليم أعمى ،مما يؤكد هذا الوجه الذي نرتأيه ويذهب إليه جمهرة من الصحابة كابن عباس وبعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة .
إنّ اعتبار التأويل في الآية مختصّاً بالله ،لا يتناسب مع تفسير العلاّمة الطباطبائي للمتشابه بأنه «كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها ،بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع محكمات الكتاب ،فتعين هي معناها وتبينها بياناً ،فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمةً بواسطة الآية المحكمة ،والآية المحكمة محكمة بنفسها »[ 7] .فإذا كان المتشابهفي القرآن كلهمحكماً واضحاً ببركة المحكم ،فكيف يكون مما اختص الله بعلمه ،كعلم الغيب ،فإن الغيب مما استأثر الله بعلمه ،فلا طريق إليه إلا من خلاله .أما المتشابه ،فيمكن للراسخين في العلم أن يعرفوه من خلال ردّه إلى المحكم الذي يملكون علمه .
وقد ذكر الطبرسي صاحب مجمع البيان تأييداً للقول بالعطف: أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه ولم يفسروه بأن قالوا هذا متشابه لا يعلمه إلاّ الله .
وقد ذكر صاحب الميزان أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة .
ولكن يلاحظ على ذلك ،أنّ ذكر التأويل السلبي لدى الذين في قلوبهم مرض ،إلى جانب الحديث عن المتشابه ،واستغلالهم التشابه الذي قد يحتمل معنى آخر ،بالإضافة إلى ذكر المحكمات اللاتي هنّ أمّ الكتاب باعتبارها القاعدة التي يرجع إليها كل ما في الكتاب حتى المتشابه ،إن هذا يوحي بأن تأويل الآية يتصل بإرجاعها إلى معناها الحقيقي الذي قد يتمثل بالمقارنة بينها وبين الآيات المحكمة التي تصرف اللفظ عن ظاهره الأوّلي ليتخذ لنفسه ظهوراً ثانوياً في معناه المجازي الوارد على سبيل الاستعارة ،وهذا ما يظهر من الروايات الواردة في أسباب النزول ،من محاولة النصارى تأويل الآيات النازلة في عيسى لمصلحة عقائدهم ،أو محاولة المجسمة حمل الآيات الظاهرة بدواً في التجسيم ،على ما يعتقدونه ،بعيداً عن المقارنة بالآيات الأخرى .
وخلاصة الملاحظة ،أن التأويل الحق الذي يعلمه الله والراسخون في العلم ،هو في سياق التأويل الذي حاول الذين في قلوبهم مرض الاستفادة منه لمصلحة عقائدهم ،من حيث حمل اللّفظ عليه .
أما علاقة ذلك بالواقع ،فمن جهة أن الواقع يدل على صدق الآية في معناها عندما يكون الحديث عن قضايا خفية أو مستقبلية .
وقد ذكر العلامة الطباطبائي ،أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة ،بل لجميع القرآن تأويل ،فللآية المحكمة تأويل ،كما أنّ للمتشابهة تأويلاً .
واستدل على ذلك بقوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [ الأعراف:5253] ،أي بالحق في ما أخبروا به وأنبئوا أن الله مولاهم الحق ،وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ،وأن النبوّة حق ،وأن الدين حق ،وأن الله يبعث من في القبور .وبالجملة ،كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها .
وقوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [ يونس:39] ،والآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب .
ولكن الظاهر أن الآيتين لا دلالة فيهما على ( التأويل ) في الكتاب ،لأن الآية الأولى تدلفي ظاهرهاعلى علاقة المضمون بالواقع المستقبلي ،باعتبار أنهم أنكروه من حيث هو أمر غيبي لا مجال للإحساس به بشكل مباشر لغموضه في وجدانهم الذي يرتبط بالحسّ في قناعاته ،ولا يحاول أن ينفتح على الجانب العقلي في إثبات الحقائق ،وهكذا كان التأويل هنا يعني إيضاح المسألة من خلال الواقع الحسّي الذي يتمثل لهم يوم القيامة ،فيفرض نفسه عليهم ،فهي خاصة بالأمر الغيبي الذي تحدث عنه الكتاب ،لا بكل الكتاب .
أما الآية الثانية ،فهي قد توحي بما ينتظرهم من الجزاء الذي توعّدهم الله به على تكذيبهم ،أو بالقيامة التي يقفون فيها ليواجهوا حساب مسؤولياتهم ،وربما كان قوله تعالى:{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} موحياً بذلك .
إن هناك فرقاً بين فكرة غامضة في الوجدان تنتظر الحس ليفسرها في الوعي الحسيّ وبين آية تنتظر الوضوح لتحديد المعنى الذي يراد منها بلحاظ مقارنتها بآية أخرى ،ولعل الثاني هو الذي يراد من التأويل في الآية بالنسبة إلى المتشابه الذي قد ينطلق المنافقون لاستغلال غموضه البدوي ،ولكن الله الذي أنزل الكتاب هو الذي يعلمه كما يعلمه الراسخون .وقد روي عن أبي جعفر الباقر( ع ) أنه قال: كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل ،وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله[ 11] .والظاهر أن الإمام الباقر( ع ) كان في مقام تطبيق الآية على الرسول والأئمة( ع ) ،وكان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم ،في إشارة لانطباق الآية عليه .
الراسخون في العلم
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} والمراد بهم الذين يملكون رسوخاً في العلم بالمستوى الذي يستطيعون به أن يفهموا كتاب الله ودينه وشريعته وحقائق الحياة الدالة على وجوده وتوحيده وحركة الحكمة في تجربتهم العملية في الحياة ،وقد ورد هذا التعبير في آية أخرى وهي قوله تعالى:{لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} [ النساء: 162] .
وإذا كانت بعض الأحاديث قد تحدثت عن النبي محمد( ص ) والأئمة( ع ) ،فإن ذلك وارد على سبيل أنهم أفضل المصاديق ،لأن علم النبي مستمد من وحي الله وإلهامه ،كما أن علمهم مستمد من علم النبي( ص ) .وقد جاء في حديث النبي محمد( ص ): «أنا مدينة العلم وعليّ بابها » ،وفي حديث الإمام علي( ع ) قال: «علمني ألف باب من العلم ،فتح لي كل باب ألف باب » . وقال الإمام جعفر الصادق( ع ) في ما روي عنه ما مضمونه: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين ،وحديث الحسين حديث الحسن ،وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله( ص ) وحديث رسول الله( ص ) قول الله عز وجل » .
وهؤلاء هم الصفوة العليا من الراسخين في العلم وممن أخذوا من العلم بقدر واسع{يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ} أي بالقرآن محكمه ومتشابهه{كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} فقد أنزل الله هذا القرآن ليكون هدى للناس في عقائدهم وأعمالهم ومواقفهم ،فإذا كان هناك بعض الغموض والتردد بين المعاني ،فإن المحكم في كتاب الله يرده إليه ويوضح معناه حتى لا يبقى فيه أي التباس ،لتتوحد الآيات كلها في المعنى القرآني الذي يجسّد في مضمونه الحقيقة الإسلامية الأصيلة ،{وَمَا يَذَّكَّرُ} في حركة الفكر التي تفتح آفاق الإنسان على الله في مواقع ربوبيته ،وتوحي له بحقيقة عبوديته له ،وتذكره بما ينتظره في الآخرة من ثواب وعقاب في خط المسؤولية التي يتمثل الإنسان نتائجها الإيجابية والسلبية في الموقف بين يدي الله ،{إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي أصحاب العقول الذين يعيشون مسؤولية العقل في التفكير بكل ما يتصل بالإنسان في مصيره في الدنيا والآخرة ومسؤولياته تجاه الحياة والإنسان .