سبب النّزول
جاء في تفسير «نور الثقلين »{[516]}نقلاً عن كتاب «معاني الأخبار » حديث عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) ما مضمونه: أنّ نفراً من اليهود ومعهم «حي بن أخطب » وأخوه ،جاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واحتجّوا بالحروف المقطّعة «الم » وقالوا: بموجب حساب الحروف الأبجدية ،فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد ،واللام تساوي 30 ،والميم تساوي 40 ،وبهذه فإنّ فترة بقاء أُمّتك لا تزيد على
إحدى وسبعين سنة!ومن أجل أن يلجمهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تساءل وقال ما معناه: لماذا حسبتم «ألم » وحدها ؟ألم تروا أنّ في القرآن «المص » و «الر » ونظائرها من الحروف المقطّعة ،فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدّة بقاء أُمّتي ،فلماذا لا تحسبونها كلّها ؟( مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر ) وعندئذ نزلت هذه الآية .
في تفسير «في ظلال القرآن » سبب نزول آخر ينسجم من حيث النتيجة مع سبب النزول المذكور ،وهو أنّ جمعاً من نصارى نجران جاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متذرّعين بقول القرآن «كلمة الله وروحه » بشأن المسيح ( عليه السلام ) في محاولة منهم لاستغلالها بخصوص مسألة «التثليث » و «ألوهية » المسيح ،متجاهلين كلّ الآيات الأخرى الصريحة في عدم وجود شريك أو شبيه لله إطلاقاً ،فنزلت الآية المذكورة تردّ عليهم .
التّفسير
المحكم والمتشابه في القرآن:
تقدّم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفيّة بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية: ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) .
أي آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي ( هنّ أُم الكتاب ) ،ثمّ أنّ هناك آيات أخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات أخرى ( وآخر متشابهات ) .
هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيّين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة ،فلذلك تضيف الآية:( فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله ) فيفسّرون هذه الآيات المتشابه وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويشبّهوا عليهم ( فأما الذين في قلوبهم زيغ{[517]}فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم ) .
ثمّ تضيف الآية: أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات ( يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربنا ) أجل ( وما يذكّر إلاّ أولوا الألباب ) .
بحوث
في هذه الآية مباحث مهمّة ينبغي بحثها بشكل مستقل كلٌّ على حدة:
1ما المقصود بالآيات المحكمة والمتشابهة ؟
«المحكم » من «الإحكام » وهو المنع .ولهذا يقال للمواضيع الثابتة القويّة «محكمة » أي أنّها تمنع عن نفسها عوامل الزوال .كما أنّ كلّ قول واضح وصريح لا يعتوره أيّ احتمال للخلاف يقال له «قول محكم » .
وعليه فإنّ الآيات المحكمات هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة التي لا مجال للجدل والخلاف بشأنها ،كآية: ( قل هو الله أحد ){[518]}و ( ليس كمثله شيء ){[519]}و ( الله خالق كلّ شيء ){[520]}و ( للذكر مثل حظّ الأُنثيين ){[521]}وآلاف أخرى مثلها ممّا تتعلّق بالعقائد والأحكام والمواعظ والتواريخ ،فهي كلّها من «المحكمات » .
هذه الآيات المحكمات تسمّى في القرآن «أُمّ الكتاب » أي هي الأصل والمرجع والمفسّرة والموضّحة للآيات الأخرى .
و «المتشابه » هو ما تتشابه أجزاؤه المختلفة .ولذلك فالجمل والكلمات التي تكون معانيها معقّدة وتنطوي على احتمالات مختلفة ،توصف بأنّها «متشابهة » .وهذا هو المقصود من وصف بعض آيات القرآن بأنها «متشابهات » ،أي الآيات التي تبدو معانيها لأوّل وهلة معقّدة وذات احتمالات متعدّدة ،ولكنّها تتّضح معانيها بعرضها على الآيات المحكمات .
وعلى الرغم من أنّ المفسّرين أوردوا احتمالات متعدّدة في تفسير «المحكم » و «المتشابه »{[522]} ،ولكن الذي قلناه يناسب المعنى الأصلي لهذين المصطلحين كما يتّفق مع سبب نزول الآية ،وكذلك مع الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية ،ومع الآية نفسها ،لأنّنا نقرأ بعد ذلك أن المغرضين يتّخذون من الآيات المتشابهات وسيلة لإثارة الفتنة .وهم بالطبع يبحثون لهذا الغرض عن الآيات التي لها تفسيرات متعدّدة .وهذا نفسه يدلّ على أن معنى«المتشابه »هو ما قلناه .
ويمكن إدراج بعض الآيات التي تخصّ صفات الله والمعاد كنماذج من الآيات المتشابهات ،مثل ( يد الله فوق أيديهم ){[523]}بشأن قدرة الله ،( والله سميعٌ عليمٌ ){[524]}بشأن علم الله ،و ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ){[525]}بشأن طريقة حساب الأعمال .
بديهيّ أنّ الله لا يد له «بمعنى العضو » ولا أذن «بالمعنى نفسه » ولا ميزان مثل موازيننا يزن بها الأعمال .هذه كنايات عن مفاهيم كلّية لقدرة الله وعلمه وميزانه .
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ كلمتي «المحكم والمتشابه » قد وردتا في القرآن بمعنى آخر .ففي أوّل سورة هود نقرأ: ( كتابٌ أُحكمت آياته ) فهنا أُشير إلى أنّ جميع آيات القرآن محكمات ،والقصد هو قوّة الترابط والتماسك بينها .وفي الآية 23 من سورة الزمر نقرأ: ( كتاباً متشابهاً ) أي الكتاب الذي كلّ آياته متشابهات ،وهي هنا بمعنى التماثل من حيث صحّتها وحقيقتها .
يتّضح ممّا قلنا بشأن المحكم والمتشابه أنّ الإنسان الواقعيّ الباحث عن الحقيقة لابدّ له لفهم كلام الله أن يضع الآيات جنباً إلى جنب ثمّ يستخرج منها الحقيقة .فإذا لاحظ في ظاهر بعض الآيات إبهاماً وتعقيداً ،فعليه أن يرجع إلى آيات أُخر لرفع ذلك الإبهام والتعقيد ليصل إلى كنهها .
تعتبر الآيات المحكمات في الواقع أشبه بالشارع الرئيسي ،والمتشابهات أشبه بالشوارع الفرعية ،لاشكّ أنّ المرء إذا تاه في شارع فرعي سعى للوصول إلى الشارع الرئيسي ليتبيّن طريقه الصحيح فيسلكه .
إنّ التعبير عن المحكمات بأُم الكتاب يؤيّد هذه الحقيقة أيضاً ،إذ أنّ لفظة «أُم » في اللغة تعني الأصل والأساس ،وإطلاق الكلمة على «الأُم » أي الوالدة لأنّها أصل الأُسرة والعائلة والملجأ الذي يفزغ إليه أبناؤها لحلّ مشاكلهم .وعلى هذا فالمحكمات هي الأساس والجذر والأُم بالنسبة للآيات الأخرى .
2لماذا تشابهت بعض آيات القرآن ؟
إنّ القرآن جاء نوراً لهداية عموم الناس ،فما سبب احتوائه على آيات
متشابهات فيها إبهام وتعقيد بحيث يستغلّها المفسدون لإثارة الفتنة ؟هذا موضوع مهمّ جدير بالبحث والتدقيق .وعلى العموم يمكن أن تكون النقاط التالية هي السرّ في وجود المتشابهات في القرآن:
أوّلاً: إنّ الألفاظ والكلمات التي يستعملها الإنسان للحوار هي لرفع حاجته اليومية في التفاهم .ولكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا الماديّة وحدودها ،كأن نتحدّث عن الخالق الذي لا يحدّه أيّ لون من الحدود ،نجد بوضوح أنّ ألفاظنا تلك لا تستوعب هذه المعاني ،فنضطّر إلى استخدام ألفاظ أخرى وإن تكن قاصرة لا تفي بالغرض تماماً من مختلف الجهات .وهذا القصور في الألفاظ هو منشأ الكثير من متشابهات القرآن .إنّ آيات مثل ( يد الله فوق أيديهم ){[526]}أو ( الرحمن على العرش استوى ){[527]}أو( إلى ربها ناظرة ){[528]}التي سوف يأتي تفسيرها في موضعه ،تعتبر من هذه النماذج .وهناك أيضاً تعبيرات مثل «سميع » و «بصير » ،ولكن بالرجوع إلى الآيات المحكمات يمكن تفسيرها بوضوح .
ثانياً: كثير من الحقائق تختصّ بالعالم الآخر ،أو بعالم ما وراء الطبيعة ممّا هو بعيد عن أُفق تفكيرنا ،وإنّنابحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان والمكان ،غير قادرين على إدراك كنهها العميق .قصور أُفق تفكيرنا من جهة ،وسمّو تلك المعاني من جهة أخرى ،سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات ،كالتي تتعلّق بيوم القيامة مثلاً .
وهذا أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أُمّه مسائل هذا العالم الذي لم يره بعد ،فهو إذا لم يقل شيئاً يكون مقصّراً ،وإذا قال كان لابدّ له أن يتحدّث بأُسلوب يتناسب مع إدراكه .
ثالثاً: من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار والعقول وإيجاد نهضة فكرية بين الناس .وهذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقّدة التي يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم ولتعميق دقّتهم في المسائل .
رابعاً: النقطة الأخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن ،وتؤيّدها أخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) ،هي أنّ وجود هذه الآيات في القرآن يصعّد حاجة الناس إلى القادة الإلهيّين والنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأوصياء ،فتكون سبباً يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء واعتراف بقيادتهم عملياً والاستفادة من علومهم الأخرى أيضاً .وهذا أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أُنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرّس نفسه ،لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأُستاذهم ،ولكي يستمرّوابسبب حاجتهم هذهفي التزوّد منه على مختلف الأصعدة .
وهذا أيضاً مصداق وصيّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض »{[529]} .
3ما التأويل ؟
الكلام كثير بشأن معنى «التأويل » ،والأقرب إلى الحقيقة هو أنّ «التأويل » من «الأول » أي الرجوع إلى الأصل ،وهو إيصال العمل أو الكلام إلى الهدف النهائي المراد منه .فإذا أقدم أحد على عمل ولم يكن هدفه من هذا العمل واضحاً ،ثمّ يتوضّح ذلك في النهاية ،فهذا هو التأويل ،كالذي نقرأه في حكاية موسى ( عليه السلام ) مع الحكيم الذي كان يقوم بأعمال غامضة الأهداف «مثل تحطيم السفينة » فكان هذا مدعاة لإنزعاج موسى ،ولكن عندما شرح له الحكيم في نهاية المطاف وعند
الفراق أهداف تلك الأعمال ،وأنّه قصد إلى تخليص السفينة من الوقوع في يد سلطان غاصب وظالم ،ختم شرحه بقوله: ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ){[530]} .
كذلك إذا رأى الإنسان رؤيا لا تتّضح له نتيجتها ،ثمّ تبيّن له تعبيرها بمراجعة شخص أو مشاهدة واقعة ،فذلك هو تأويل الرؤيا ،مثل يوسف ( عليه السلام ) الذي قال حين تحقّقت رؤياه الشهيرة عملياً ،أو بعبارة أخرى حين وصلت مرحلتها النهائية ( هذا تأويل رؤياي من قبل ){[531]} .
وهكذا إذا صدر عن الإنسان كلام فيه مفاهيم وأسرار خاصّة تشكّل الهدف النهائي لذلك الكلام ،فذلك هو التأويل .
هذا هو معنى التأويل في الآية .أي أنّ في القرآن آيات ذات أسرار ومعان عميقة غير أنّ ذوي الأفكار المنحرفة والمقاصد الفاسدة يضعون من عندهم تفسيراً لا أساس له من الصحّة ويستندون إليه لخداع أنفسهم أو غيرهم .
وعليه ،فإنّ المقصود من ( ابتغاء تأويله ) هو أنّ هؤلاء يريدون أن يؤولوا الآيات بصورة تخالف حقيقتها ،أي ابتغاء تأويله على خلاف الحقّ .
وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية أنّ بعض اليهود أوّلوا تلك الحروف
المقطّعة في القرآن تأويلاً لا يتّفق مع الحقيقة ،فقالوا إنّها تحدّد عمر الإسلام .وهكذا المسيحيّون أساؤوا تأويل «روح منه » ليثبتوا ألوهية المسيح ( عليه السلام ) .هذه كلّها من قبيل «التأويل بخلاف الحقّ » ،وإرجاعها إلى مقاصد بعيدة عن الحقيقة .
4من هم الراسخون في العلم ؟
هذا التعبير القرآني ورد في موضعين .هذا أحدهما هنا والآخر في سورة
النساء ،إذ يقول: ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلِك ){[532]} .
وبحسب المعنى اللغوي لهذه الكلمة ،فإنّها تعني الذين لهم قدم ثابتة في العلم والمعرفة .
طبيعي أن يكون معنى الكلمة واسعاً يضمّ جميع العلماء والمفكّرين ،إلاَّ أنّ بين هؤلاء أفراداً متميّزين لهم مكانتهم الخاصّة ،ويأتون على رأس مصاديق الراسخين في العلم وتنصرف إليهم الأذهان عند استعمال هذه الكلمة قبل غيرهم .
وهذا هو الذي تقول به بعض الأحاديث التي تفسّر الراسخين في العلم بأنّهم النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمّة الهُدى ( عليهم السلام ) ،فقد سبق أن قلنا إنّ لكلمات القرآن ومفاهيمه معاني واسعة ،ومن مصاديقها البارزة الشخصيّات النموذجية السامية التي تُذكر أحياناً وحدها في تفسير تلك الكلمات والمفاهيم .
عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر «الباقر » ( عليه السلام ): قول الله ( وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم ) قال: «يعني تأويل القرآن كلّه ،إلاَّ الله والراسخون في العلم ،فرسول الله أفضل الراسخين ،وقد علّمه جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ،وما كان الله منزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »{[533]} .
وهناك أحاديث كثيرة أخرى في أُصول الكافي{[534]}وسائر كتب الحديث بهذا الشأن ،جمعها صاحبا تفسير «نور الثقلين » وتفسير «البرهان » في ذيل هذه الآية .
وكما قلنا فإنّ تفسير الراسخين بالعلم بأنّهم النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمّة الهُدى ( عليهم السلام )لا يتعارض مع المفهوم الواسع الذي يشمله هذا التعبير ،فقد نقل عن ابن عبّاس أنّه قال «أنا أيضاً من الراسخين في العلم » إلاَّ أنّ كلّ امرئ يتعرّف على أسرار تأويل آيات القرآن بقدر سعته العلمية ،فالذين يصدرون في علمهم عن علم الله اللامتناهي لا شكّ أعلم بأسرار تأويل القرآن ،والآخرون يعلمون جزءاً من تلك الأسرار .
5الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهات
ثمّة نقاش هامّ يدور بين المفسّرين والعلماء حول ما إذا كانت عبارة ( الراسخون في العلم ) بداية جملة مستقلّة ،أم أنّها معطوفة على ( إلاَّ الله ) .وبعبارة أخرى: هل أنّ معنى الآية و أنّه ( ما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم ) ؟أم أنّه ( ما يعلم تأويله إلاَّ الله ) ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا ) ؟
إنّ لكلّ فريق من مؤيّدي هذين الاتجاهين أدلّته وبراهينه وشواهده .أمّا القرائن الموجودة في الآية والأحاديث المشهورة المنسجمة معها فتقول إنّ ( والراسخون في العلم ) معطوفة على «الله » ،وذلك:
أوّلاً: يُستبعد كثيراً أن تكون في القرآن آيات لا يعلم أسرارها إلاَّ الله وحده .ألم تنزل هذه الآيات لهداية البشر وتربيتهم ؟فكيف يمكن أن لا يعلم بمعانيها وتأويلها حتّى النبيّ الذي نزلت عليه ؟هذا أشبه بمن يؤلّف كتاباً لا يفهم معاني بعض أجزائه سواه!
وثانياً: كما يقول المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان »: لم يسبق أن رأينا بين علماء الإسلام والمفسّرين من يمتنع عن تفسير آية بحجّة أنّها من الآيات التي لا يعرف معناها سوى الله ،بل كانوا جميعاً يجدّون ويجتهدون لكشف أسرار القرآن ومعانيه .
وثالثاً: إذا كان القصد هو أنّ الراسخين في العلم يسلّمون لما لا يعرفونه ،لكان الأولى أن يقال: والراسخون في الإيمان يقولون آمنّا به .لأنّ الرسوخ في العلم يتناسب مع العلم بتأويل القرآن ،ولا يتناسب مع عدم العلم به والتسليم له .
ورابعاً: أنّ الأحاديث الكثيرة التي تفسّر هذه الآية تؤكّد كلّها أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويله ،وعليه فيجب أن تكون معطوفة على «الله » .الشيء الوحيد الباقي هو إنّ خطبة «الأشباح » للإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة يستفاد منها أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل الآيات ويعترفون بعجزهم .
«وأعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب ،الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب الحجوب »{[535]} .
ولكن فضلاً عن كون هذه العبارة تناقض بعض الأحاديث المنقولة عنه ( عليه السلام ) التي قال فيها: إنّ الراسخين في العلم معطوفة على «الله » وإنّهم عالمون بتأويل القرآن ،فإنّها لا تنسجم أيضاً مع الأدلّة التي سبق ذكرها{[536]} .وعليه فيلزم تفسير هذه الجملة من خطبه «الأشباح » بما يتّفق والأسانيد الأخرى التي بين أيدينا .
6نتيجة الكلام في تفسير الآية
من كلّ ما مرّ قوله تفسيراً لهذه الآية نستنتج أنّ آيات القرآن قسمان: قسم معانيها واضحة جدّاً بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها ،وهذه هي الآيات «المحكمات » .وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى ،أو أنّها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا ،كعلم الغيب ،وعالم يوم القيامة ،وصفات الله ،بحيث إنّ معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها يستلزم مستوىً عالياً من العلم ،وهذه هي الآيات «المتشابهات » .
المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها بحسب أهوائهم وبخلاف الحقّ ،لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلّوهم عن الطريق المستقيم .بيدَ أنّ الله والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات ويشرحونها للناس ،فهم بعلمهم الواسع يفهمون المتشابهات كما يفهمون المحكمات ،ولذلك فإنّهم يسلّمون بها قائلين إنّها جميعاً من عند الله: ( يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا ) .
وعلى هذا يكون الرسوخ في العلم سبباً في أن يزداد الإنسان معرفة بأسرار القرآن .ولا شكّ أنّ الذين رسخوا في العلم أكثر من غيرهمكالنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمّة الهُدىيعلمون جميع أسرار القرآن ،بينما الآخرون يعلمون منها كلّ بقدر سعة علمه .وهذه الحقيقة هي التي تدفع الناس ،وحتّى العلماء منهم ،للبحث عن المعلّمين الإلهيّين ليتعلّموا منهم أسرار القرآن .
7( وما يذّكر إلاَّ أُولوا الألباب ) .
تشير هذه الجملة في ختام الآية إلى أنّ هذه الحقائق يعرفها المفكّرون وحدهم ،فهم الذين يدركون لماذا ينبغي أن يكون في القرآن «محكمات » و«متشابهات » ،وهم الذين يعلمون أنّه يجب وضع المتشابهات إلى جانب المحكمات لكشفها .لذلك فقد نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) أنه قال: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم »{[537]}