قوله تعالى: ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) .
يتضمن القرآن صنفين من الآيات .أحدهما: آيات محكمات هن أم الكتاب .أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ،والأم في اللغة تعني الأصل الذي يكون منه الشيء ،فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ،والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ،باتت المحكمات كالأم للمتشابهات{[394]} .
وثانيهما: آيات متشابهات ،وقد اختلف العلماء في المراد بالمحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة .ولعل أحسن ما قيل في ذلك أن المحكمات من القرآن: ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره .أما المتشابه: فما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعمله دون خلقه ،وهو قول كثير من أهل العلم .وجملة ذلك أن الآيات المحكمات ،ما أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والإجمال والاشتباه فكانت واضحة مستبية ،وذلك كقوله تعالى من سورة الأنعام ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) إلى ثلاث آيات بعدها .وقوله تعالى من سورة الإسراء: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) إلى ثلاثة آيات بعدها .
أما الآيات المتشابهات ،فهي المحتملات أو المجملات التي لا يتضح مقصودها إلا بالفحص الدقيق والنظر العميق من أولي الألباب ،ومثال ذلك الحروف التي في فواتح السور كقوله: ( الم ) ،( الر ) ،( حم عسق ) ،( كهيعص ) .وكذلك كقوله تعالى: ( الرحمن على العرش استوى ) وغير ذلك من الآيات المحتملة مما يكون دلالة الألفاظ بالنسبة إليها وإلى غيره على السوية .
ومن أحسن ما قيل في هذا الصدد: المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ،ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه .والمتشابهات لكهن تصريف وتحريف وتأويل ،ابتلى الله فيهن العباد .
قال القرطبي في ذلك: المحكم اسم مفعول من أحكم ،والإحكام الإتقان ،ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ،ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال{[395]} .
قوله: ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) الزيغ معناه الميل عن الحق .زاغ البصر إذا كلّ ،وزاغت الشمس ،أي مالت .وذلك إذا فاء الفيء{[396]} .ومنه قوله تعالى: ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) والذين في قلوبهم زيغ ،أي انحراف عن القصد ،وميل عن الحق ،وجنوح مريض نحو الباطل بدلا من السبيل المستقيم .هؤلاء المائلون عن جادة الصواب ،الجانحون صوب الباطل من أولي الطبائع الضالة والقلوب المريضة يستنكفون عن اتباع الآيات المحكمات الواضحات التي يعوّل عليها في إدراك هذا الدين عقيدة وشريعة ،لكنهم تستخفهم قلوبهم الزائغة لاتباع ما تشابه من الكتاب الحكيم .فهم إنما يتمسكون بالمتشابه من الآيات ؛لما يمكنهم من تحريفه إلى مقاصدهم الفاسدة ؛نظرا لاحتمال لفظه ما يديرون عليه من تأويل مريب .
أما المحكم فلاحظ لهم فيه ؛لوضوحه وبيانه فهو دافع لمقاصدهم وحجة عليهم .وهذا الصنف الجانح من الناس إنما يصطنع مثل هذا التأويل ( ابتغاء الفتنة ) أي طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام .وذلك ديدان التائهين المضللين من العباد الذين لا يستمرئون غير طريق الضلال والفساد ولا يستطيبون غير ظواهر المرض والعمه تغشى المجتمع فتطيح به إطاحة أو تنسفه من القواعد نسفا ليظل أشباها من الناس التائهين الشاطحين الحائرين .وأمثال هؤلاء المفسدين المضلين كثير في أوساط المسلمين ،بل إن تاريخهم طويل ومرير في زعزعة العقيدة الإسلامية وتشويه العلوم الإسلامية وإشاعة الريبة والفتن بين فئات المسلمين كالزنادقة على اختلاف مقولاتهم وإفرازاتهم الضالة المضلة .ومن جملتهم القرامطة والحشاشون والسبئية والنصيرية ( العلويون ) والبهائية والقاديانية والدروز .وكذا المجسمة والمشبهة والمعطلة ،إلى غير هؤلاء من أصحاب الملل والنحل الضالة الفاسدة .كل أولئك من حيث الضلال والانحراف والزيغ في جانب ،والجماعة المؤمنة المستقيمة في جانب آخر مميز .وهؤلاء هم أهل السنة الذين لا يتبعون ما تشابه من القرآن وإنما يتبعون آيات المحكمات فهم دوما على جادة الصواب .وفي وسط المحجة اللاحبة البيضاء سائرون ماضون إلى أن يلقوا الله على هذه الحال من الاستقامة والإخبات .
وعلى هذا فإن هذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة متبع لما تشابه من القرآن ،وإن كانت الإشارة بهذه الآية في ذلك الوقت إلى نصارى نجران الين حاوروا النبي صلى الله عليه و سلم في قصة عيسى المسيح وجادلوه في ذلك بغير حق متبعين لما تشابه من آيات الكتاب الحكيم في هذه المسألة{[397]} .
وقوله: ( وابتغاء تأويله ) التأويل هو التفسير ما يؤول إليه الشيء .وقد أوله تأويلا وتأوله أي دبره وقدره وفسره{[398]} .
قال الرازي في بيان التأويل: اعلم أن التأويل هوالتفسير ،وأصله في اللغة المرجع والمصير .من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه ،وأولته تأويلا إذا صيرته إليه .هذا معنى التأويل في اللغة ،ثم يسمى التفسير تأويلا .قال تعالى: ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وقال تعالى: ( وأحسن تأويلا ) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى .واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ،مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم ؟وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون ؟{[399]} .
والذين يتبعون ما تشابه من القرآن إنما يطلبون بذلك- فوق طلبهم الفتنة- تأويله .أي يؤولونه التأويل الذي يشتهونه بتحريفه على ما يروق لهواهم الجانف وقلوبهم الزائغة الجانحة{[400]} .
قوله: ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما ذكر إلا أولوا الألباب ) .
اختلف العلماء في معنى الواو قبل ( الراسخون ) هل هي للاستئناف ( الابتداء ) أم للعطف ؟فثمة قولان في ذلك .
أحدهما: أن الواو للاستئناف .فالوقف بذلك على لفظ الجلالة ( الله ) ثم يأتي الكلام بعد ذلك مستأنفا .فالواو هنا لابتداء الكلام بعد تمامه .وعلى هذا فإنه لا يعلم تأويل المتشابه من الكتاب الحكيم إلا الله .وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك ابن أنس والكسائي والفراء والأخفش .ومن المعتزلة قول الجبائي .واختاره الرازي .
ثانيهما: أن الواو تفيد العطف ،فالراسخون معطوف على لفظ الجلالة .وعلى هذا يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم .وهو قول أكثر المتكلمين .وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس{[401]} وفي تقديري أن القول الأول هو الراجح .ووجه ذلك من عدة وجوه منها:
أولا: أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال سبحانه ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذم الله تعالى ذلك .
ثانيا: لو كان قوله: ( والراسخون في العلم ) معطوفا على قوله ( إلا الله ) لصار قوله: ( يقولون آمنا به ) ابتداء كلام ،وهذا بعيد عن ذوق الفصاحة ،بل كان الأولى أن يقال: وهم يقولون آمنا به .أو ويقولون آمنا به .
ثالثا: ما ذكر عن ابن عباس قوله: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ،وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ،وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ،وتفسير لا يعلمه إلا الله .
ويؤيد ذلك ما ذكر أن مالك بن أنس رحمه الله لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم ،والكيفية مجهولة ،والإيمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة{[402]} .
وقوله: ( والراسخون في العلم ) من الرسوخ وهو الثبوت في الشيء .وكل ثابت راسخ .ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا ،فالراسخون في العلم هم الذين ثبتوا وتمكنوا فيه .وقال الرازي في هذا الصدد: واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية ،وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية ،فإذا رأى شيئا متشابها ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره ،وأن ذلك المراد حق ،ولا يصير كون ظاهره مردودا شبهة في الطعن في صحة القرآن{[403]} .
ثم حكى الله عن الراسخين في العلم قولهم: ( آمنا به كل من عند ربنا ) أي أنهم يعلنون عن إيمانهم القاطع أن هذا المتشابه من عند الله أو هو كلام الله ونحن مؤمنون به .وقالوا أيضا: ( كل من عند ربنا ) أي أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله فهما ( المحكم والمتشابه ) كلاهما حق وصدق وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ؛لأن الجميع منزل من عند الله{[404]} .
قوله: ( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) أي ما يعي هذا ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لبّ ،وهو العقل .ولب كل شيء خالصه{[405]} .